بعد نصف قرن من النكسة :جرحٌ غائرٌ .. وآثارٌ ما زالت عالِقة

عندما يوافق الخامس من حزيران/يونيو للعاشر من رمضان ، يذكّرك التاريخ بالرابط الأزلي بين المناسبتين ، فالبعض يقول: لولا النكسة لما ولِد النصر! والبعض الآخر يقول: لولا حرب تشرين الأول/ أكتوبر، كنا في نكسة حتى الآن.

غير أن انكسار الفكر والنفس هو الذي يبقى، ويطول علاجه، وهو انكسار مازلنا نرى تبعاته، وآثاره في الفكر والثقافة والفن والشعر
عندما يوافق الخامس من حزيران/يونيو للعاشر من رمضان ، يأخذك التفكير عميقاً ، وتسرح ، وتفكّر ، هل نجعل هذا اليوم عيداً أم موعداً مع الأحزان ؟!


هل نكتب عن فرحة النصر المؤزّر في حرب تشرين/أكتوبر أم نكتب عن نكسة الانكسار والانحسار في حزيران/يونيو؟!


عندما يوافق الخامس من يونيو للعاشر من رمضان ، يذكّرك التاريخ بالرابط الأزلي بين المناسبتين ، فالبعض يقول: لولا النكسة لما ولِد النصر! والبعض الآخر يقول: لولا حرب تشرين الأول/ أكتوبر،  كنا في نكسة حتى الآن.


نكسة ليست فقط في خسارة الجند والأرض، بل في خسارة الثقة والأمل، في الانكسار أمام العدو، والإحساس بالعجز والوهن.

 نكسة ثقافية، سياسية، نفسية، شكّكت العربي عموماً،  والمصري خصوصاً، في كل ما كان عليه، وأطفأت جذوَة الأمل في نفوس الثائرين، الحالمين بوطن عربي موحّد ، قويّ ، قادر على تحدّي كل القوى الطامِعة التي تُحيط به، وتنهش في كيانه.


وكان هذا أخطر ما في النكسة، فالحق لا بدّ يعود بالصبر والجَلَد، وبقوة الزمن الذي ينسى جباريه، ولا ينسى مظاليمه.

 والشهداء هم ملائكة السماء على الأرض، أرواح طاهرة، كتبت وثيقة بيع غير رجعي لحياتها ، قبل أن تنتعل بياداتها، فلا يضيرها، إن انتصر في نهاية الحرب قومها، أم قوم القتلَة.


غير أن انكسار الفكر والنفس هو الذي يبقى، ويطول علاجه، وهو انكسار مازلنا نرى تبعاته، وآثاره في الفكر والثقافة والفن والشعر .


نراه في مستوى مسلسلات رمضان التي تورّم إنتاجها حتى وصل إلى ميزانيات دول، وغاب عن معظمها الفكر والكتابة.

نراه في تدنى كلمات الأغاني ، التي بدأت مع " الطشت قاللي"، حتى " بحبك يا حمار " ، والحبل على الجرار.

 

نراه في روايات معارض الكتاب في كل ربوع الوطن العربي التي تجاوزت فيها أعداد حفلات توقيع الكتب أعداد الزوّار، وتشابهت فيها كل الروايات، وكل البدايات والنهايات ، فيما عدا المسروق منها أو المنحول.


وإن كنا اليوم نعيش محض بقايا من تبعات، فإن مَنْ عاصر النكسة يتذكّر، لا شكّ،  كيف اهتزّت في داخل العربي كل المبادئ والثوابت، وانقلب الزخم العروبي الجامع ، إلى التشرذم والشتات.


وعبّر الشاعر السوري الكبير نزار قباني خير تعبير عن الكارثة حين كتب قصيدته هوامش على دفتر النكسة:

أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمهْ

والكتبَ القديمهْ

أنعي لكم..

كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمهْ..

ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمهْ

أنعي لكم.. أنعي لكم

نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمهْ

وكما غضب نزار قباني، شاعر الرومانسية حتى النكسة، جاء الفتى الصعيدي الأسمر أمل دنقل ليصرخ في الميادين رفضاً للنكسة في قصيدته:" البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ويقول:

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..

جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

أسأل يا زرقاءْ ..

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة

عن صوَر الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء

عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..

فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !

عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!

أسأل يا زرقاء ..

عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !

عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟

كيف حملتُ العار..

ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !

ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنّسة ؟

كل هذه الانكسارات والنكسات، وكل هذه الجروح الغائرة في صدورنا، ووجداننا، مازال يصدر منها الأنين، ومازلنا نعيش تبعاتها، رغم كل هذه السنين، ومازال الانكماش العربي، والتراجع العربي، والتشتّت العربي قائماً، وإحساسنا بالحسرة والوهن دائماً، لا يخفّف عنا إلا عندما يوافق الخامس من يونيو للعاشر من رمضان.