عن الفتاوى السريعة في مترو أنفاق القاهرة

قال الأمين العام لمجمع البحوث الدكتور محي الدين عفيفي إن "الفكرة جاءت لمحاربة التطرف والإرهاب، وليسأل المواطن رجال الأزهر الشريف بدلاً من السلفيين بفتاواهم المتشددة، والمنتشرين في مصر كلها. وأن الهدف من هذه الأكشاك هو مواجهة فوضى الفتاوى المغلوطة باسم الدين، ومواجهة الفكر المتطرف الذي يتعسف في تفسير النصوص الدينية، والالتحام بالجماهير، وقطع الطريق على أدعياء الدين، وهي فكرة تصب في مصلحة المسلم وغير المسلم، فمواجهة الفكر المغلوط بالتوعية والمواجهة الفكرية المضادة أمر مهم جدا للمجتمع بجميع فئاته".

الكشك عبارة عن مركز أو غرفة صغيرة زجاجية لتقديم الفتوى لمن يطلبها من ركّاب المترو
في خطوة جريئة وجدلية قام مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة بإنشاء كشك للإفتاء داخل محطة مترو الأنفاق "الشهداء"، وهي أكثر محطات مرفق المترو ازدحاماً، لأن المحطة تقع في ميدان رمسيس وهو أشهر ميادين القاهرة وأكثرها ازدحاماً لأنها قريبة من محطة السكك الحديدية. والمترو ينقل حوالي خمسة ملايين راكب كل يوم، ومن هنا جاءت الفكرة بإنشاء كشك (وهو عبارة عن مركز أو غرفة صغيرة زجاجية) لتقديم الفتوى لمن يطلبها من ركّاب المترو. وقال الأمين العام لمجمع البحوث الدكتور محي الدين عفيفي إن "الفكرة جاءت لمحاربة التطرف والإرهاب، وليسأل المواطن رجال الأزهر الشريف بدلاً من السلفيين بفتاواهم المتشددة، والمنتشرين في مصر كلها. وأن الهدف من هذه الأكشاك هو مواجهة فوضى الفتاوى المغلوطة باسم الدين، ومواجهة الفكر المتطرف الذي يتعسف في تفسير النصوص الدينية، والالتحام بالجماهير، وقطع الطريق على أدعياء الدين، وهي فكرة تصب في مصلحة المسلم وغير المسلم، فمواجهة الفكر المغلوط بالتوعية والمواجهة الفكرية المضادة أمر مهم جدا للمجتمع بجميع فئاته".

هي كلمات رائعة جعلت من الكثيرين يتحمسون لها، ولكننا نراها فكرة غير رشيدة، تريد الخير ولكنها تخطىء الوسيلة، ذلك لأن المواطن يستطيع أن يأخذ الفتوى مباشرة من موقع داء الإفتاء المصرية، أو من رجال الأزهر المتواجدين في المناطق الأزهرية في كافة المدن الكبرى والصغرى في مصر. كما أنه من المتوقع إنشاء أكشاك جديدة في محطات للمترو متعددة، وهنا يمكن أن تتضارب الفتاوى، وربما يسأل مواطن عن فتوى في محطة الشهداء فلا تروق له، فيذهب ليسأل شيخاً آخراً في محطة السادات أو المعادي أو غيرهما، وهي تربك السائل.

المشكلة الكبرى هي أن الدولة بهذه الفكرة، تكرر ما حدث في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، عندما نافست السلفيين الوهابيين وزايدت عليهم في موجة التدين الظاهري، أو التنافس فيمن هو أكثر تديناً، وكان تنافساً ممقوتاً، أضرّ كثيراً بالدولة المصرية وشعب مصر المشهور بالتسامح. فسمحت مثلاً بتأسيس شركات توظيف الأموال التي سرقت فيما بعد مدخرات المواطنين، كما نشرت وأذاعت برامج دينية مثل العلم والإيمان لمصطفى محمود، كما أعفت الدولة أصحاب البيوت من الضرائب وفواتير المياه والكهرباء إذا بنى أسفل البيت مسجداً صغيراً (زاوية)، فصارت تلك الزوايا مفارخ للإرهاب والإرهابيين، عاني منها الوطن في موجة الإرهاب الأولى في التسعينيات، ومعظم لقاءات ومؤامرات الإرهابيين كانت في تلك الزوايا العبثية، وتم إغلاق هذه الزوايا في صلاة الجمعة منذ عامين، بعد أن شاع الإرهاب منها، وفي الوقت ذاته نجد الدولة تعيد المأساة دون إدراك أبعادها، فالفكر السلفي موجود في فضائياتهم ومواقعهم الإلكترونية، كما أنهم أيضاً يذهبون في القرى والمدن والأحياء الشعبية ليعطوا الفتوى لمن يسأل ومن لا يسأل.

المفترض أنهم ممنوعون من إطلاق الفتوى بصورة رسمية، ولكن لا يمكن السيطرة عليهم، لا من خلال الفتوى في وسائل المواصلات، ولا في المناطق البعيدة، ولا يمكن حجب المواقع والفضائيات، وستكون المنافسة على أي من الفريقين على تدين حقيقي، هل هي الدولة بأزهرها أم السلفيين بتخفيهم وفتاواهم المنتشرة. وهذا ينمّي التعصب فعلاً وقولاً، صحيح أن المواطن يريد فتوى في الأحوال الشخصية مثل الطلاق والزواج والميراث، ولكنه حتماً سيبتعد عن الفتاوى السياسية، والتي هي في الأصل سبب مآسي الأمة ليس في مصر وحدها، بل في كل بلاد المسلمين، مثلاً لن يسأل مواطن عن حرمة أو تحليل تهنئة القبطي بعيد الميلاد أو عيد القيامة، ولا نتوقع أن يسأله على حرمة أو تحليل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أو ليلة الإسراء والمعراج، لأنها أمور خارجة عن دائرة اهتمام مواطن يتنقل في مترو الأنفاق، فيسأل سريعاً ويرحل سريعاً، ونرى الأمر يقود للتعصب، فقد نتوقع أن يطلب القبطي أن يكون له كشك فتوى مسيحية، وهنا يكون الأمر  ضد الفكرة التي أُنشئت من أجلها أكشاك فتاوى مترو أنفاق القاهرة.

وهنا نعود لنقول إن القضاء على الفكر الوهابي السلفي الإرهابي يتلخص في أمور متعددة، منها إعادة تربية الناس منذ الصغر، وتعديل المناهج الدراسية بحيث تتفق وصحيح الدين الذي يؤكد على حرمة الدماء وروح المساواة بين البشر، وإكرام المرأة، وأن التعددية هي أصل الأشياء في المنظور الإسلامي، ولابد من نشر الثقافة والفكر، وحرية النقد العلمي، ثم الأهم السعي في تحرير الخطاب الديني مما عليه من أدران فكرية جعلت "الدواعش" وأمثالهم يعيثون في الأرض فسادا. فالتربية من بداية هي الطريق الوحيد لنشر التسامح، والعملية التربوية تحتاج لجيل أو جيلين لتؤتي ثمارها، هو طريق طويل ولكن مأمون العواقب، ولكن قبل ذلك وبعد ذلك لابد للاستبداد السياسي من أن يندثر ولا يستغل الدين في الاستبداد والطغيان، كما حدث ربما في كل فترات التاريخ الإسلامي، وعند كل شعوب المسلمين، والله يحفظ الأمة ويوحدها.