لا داعي لإسقاط السلطة الفلسطينية

لا داعي لإسقاط السلطة، فالثمن كبير، أهجروها فقط، اتركوها لهم، فكلما صَغُر دورها في الداخل، كلما قلّت قيمتها عند المُحتل، هذه القيمة التي بدأت بالتناقص أصلاً عندما قرّر غيرهم أن فلسطين التاريخية هي وجهته المقبلة.

يجب أن يُسلّم الفلسطينيون أن هناك مَن يقود حركة التحرّر العربية غيرهم وأنهم فصيل فيها
توقّف العقل الفلسطيني المؤثّر عن العمل، فيما بقيت بعض أطراف جسمه تنتفض، كما لو كانت حركات لا إرادية لمخلوق جُزّ رأسه ويلفظ أنفاسه الأخيرة.

مَن قادَ حركة التحرّر الوطني العربية يوماً ولعقود خلت، فكراً وريادة، واستقطب مناضلي الحرية والديمقراطية والاشتراكية عربياً وأممياً تراجع إلى الصف الأخير وبالكاد يستطيع حتى استيعاب مُعضِلته الخاصّة.

الانتفاضة الأولى ... القمّة

في المُقدّمات، أنه بالرغم من أخطاء الثورة الفلسطينية القاتلة، رعونة، سذاجة أو قُصر نظر، في الأردن ولبنان والتي توّجها الخروج المُذلّ من بيروت، إلا إن الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة تداركوا جزءاً من خطايا هذه المراحل وتداعياتها.

فقوى الخارج، يسار فتح ويسار الثورة، قرّرت البقاء في سوريا ولبنان وخوض حروب إسقاط اتفاق أيّار وتحرير الجبل والمساهمة الفاعلة والنوعية مع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.

لكن ما أوصلنا إلى قمّة نضالنا هو الانتفاضة الأولى التي استجابت بعبقرية لتحدّيات المرحلة المصيرية. أولاً عبر نقل مركز وثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج إلى الداخل رداً على الهزيمة وعلى اختيار تونس كمستقرٍّ جديد، وثانياً عبر ابتداع شكل جديد من أشكال النضال الوطني الفلسطيني الذي احتارت كل قواه في تسميته حتى استقروا على لفظ "الانتفاضة".


هنا كانت قمّة الإبداع وفي هاتين النقطتين بالذات يكمن خطر الجمود ومن ثم أساس الحل، لكن إلى الهزائم أولاً.

المقتل الأول

أدركت قوى المُعسكر المُعادي، أن انتفاضة كهذه بالدعم الذي تحصل عليه من كل العالم وتحديداً من فلسطينيي الخليج (قُدّرَت تحويلات المُغتربين في تلك الفترة بأكثر من مليار دولار سنوياً بين الأردن وفلسطين) يمكن أن يبقيها في حيويتها لفترة طويلة جداً.

فكانت الفكرة المُضادّة التي استطاعت اصطياد عشرات العصافير في وقتها وحتى يومنا هذا بحجر غزوٍ واحد، فصدرت الأوامر بوقف حرب استنزاف إيران والإعداد لحرب الكويت.

فكان أن اصطفّت، بقدرة قادر، المواقف المُتناقِضة لأعضاء مجلس التعاون العربي آنذاك، والذي يبدو أنه تأسس لهذا الغرض تماماً في فبراير 1989 ، بحيث تكون النتيجة هي طرد الفلسطينيين والأردنيين واليمنيين من الخليج وطرد المصريين من العراق بعد تحميلهم عبء ونتائج مواقف بلدانهم وقياداتهم، بالإضافة إلى صرف مئات المليارات على الأسلحة خلال الحرب وبعدها، بحجة خطر صدّام المستمر واختبار أسلحتهم على أهداف حيّة وتهيئة ظروف حرب الخليج الثالثة في عام 2003.

مقتل ثانٍ

بعد أن نُشِّفت مصادر تمويل الانتفاضة ومعظم مصادر تمويل اليسار، وبعد هزيمتهم الأخلاقية الكبرى، كثورة لشعب مُحتلّة أراضيه لكن أيّدت الغزو، تم الانتفال إلى المرحلة التالية والتي إن كان أوسلو هو عنوانها السياسي بعد سرقة مُنجزات الانتفاضة، إلا أن أهم أهدافها كان إفراغ الخارج من كل كوادره، بعد أن تخلّت عنهم تنظيماتهم بسبب الضائقة المالية، وحشرهم في وظائف محسوبة الثمن في مؤسّسات السلطة ريثما يتم تحويلها إلى شبه دولة على النمط العربي السائد: بيروقراطية، استهلاك، محسوبيات، فساد، وارتباط شبه كامل بمؤسّسات العدو.

ما بعد أبو عمّار

آمنت نُخَبُ الشعب الفلسطيني التي تكوّنت منها السلطة  واستفادت هي منها، بقدرات أبو عمّار الذي ربما بإمكانه، برغم الخلل في كل التوازنات وبيع الانتفاضة بثمن بخس، أن ينتزع سلطة أو شبه دولة على طريق تحقيق مشروع الدولتين فاستمرت بتغطيته وطنياً.

وبرغم الاستقرار النسبي وانفتاح مناطق السلطة للاستثمارات، إلا أن شيئاً من معالِم الدولة الموعودة ومؤسّساتها لم يتحقّق، باستثناء بناء المؤسّسات الأمنية، فكانت انتفاضة 2000 كتعبير عن فشل هذا المشروع من ناحية وإيذاناً ببدء مرحلة الانقلاب على الثوابت الوطنية والتمهيد لما بعد أبو عمّار.

في تلك الفترة وحتى موعد الانتخابات التشريعية، وضعوا منظمة التحرير في الأدراج وقالوا عفا عليها الزمن، فالداخل يمثل الكل، والسلطة تعني الدولة ولا مانع من ديمقراطية شكلية على النمَط العربي السائد، وعلى أساس أن نتائج إنتخاباتها مضمونة.

فاجأهم حجم حماس وحجم خلافاتهم الداخلية فكان أول اختراق كبير غير محسوب لمشروع أوسلو الكبير، ولكن ردّ السلطة كان حاضراً: يُخرِجون منظمة التحرير من الأدراج وتصبح مادة للاستهلاك: هي ممثّلنا الشرعي والوحيد ولم يجدوا أفضل من نُخَب السلطة، بيمينها ويسارها، في مجاراتهم في كذبة الاستهداف هذه لحماس لمنعها من استلام السلطة ولعلمهم أن حماس لن تقبل بعضوية شكلية في منظمة التحرير وعلى حساب أحقّيتها في القيادة.

 كان انقلاب حماس في غزّة ردّاً على الردّ وهو ثاني وأكبر اختراق لأوسلو ولا ندري إن كان توقيته القاتل للسلطة وإسرائيل هو محض صدفة تاريخية، أم أنها عبقرية شعب يتدخّل مرة أخرى في الوقت المناسب، وعبر تحالف مع معسكر للمقاومة مكنّه من تحييد "نصف المشروع" برغم الحروب المتواصلة والحصار شبه الدائم لعكس مفاعيله.

مَن يملك قرار الدم؟

هي نفس الأسئلة التي واجهتها الهبّات في عدد من الدول العربية. من ذلك الذي بامكانه أخذ قرار السير في مشروع الثورة حتى النهاية ولا يملك في نفس الوقت تفويضاً كاملا وواضحا من حزب قائد وجماهيرعريضة مُستعدّة للتضحية؟

علماً بأن السؤال الفلسطيني أعقد بكثير من نظيره العربي، إذ سيأتي حمّام الدم الإسرائيلي بعد الخوض في مستنقعات السلطة في حين أن باقي العرب سيواجهون جيوشهم فقط وهي عرضة للانقلاب على أسيادها مع ازدياد الخسائر البشرية، كما علّمنا تاريخ الثورات.

ما العمل؟

الحل هو في العودة إلى الجذور التي شكّلت قومية وأممية ثورتنا، وفي الخروج من سجن الأفكار وقيود السلطة وأن نستلهم مما نجحت فيه الانتفاضة الأولى، بمعنى الإبداع والتجديد في أشكال النضال.

لم يعد يعرف الفلسطينيون، كأحد أبرز دلائل جمودهم، إلا الانتفاضة كشكلٍ نضالي. فأي فعل في الضفة يجب أن يتحوّل إلى انتفاضة وإلا فإنه فاشل وليس على مستوى تضحيات شعبنا، وكأن كل أشكال النضال التي خضناها قبل 1987 هي مُجرّد تضييع للوقت بانتظار الحدث العظيم. ومصيبتنا هنا في قيادات الفصائل التي يجب أن تعرف أكثر من غيرها أن فعل الانتفاضة لا تقرّره رغباتهم كما أن واقعهم على الأرض لا يوحي أن بإمكانهم أن يكونوا أكثر من مشاركين خجولين أو مُصفّقين لتضحيات فردية عظيمة.

ولماذا الإصرار على أن يبقى الداخل هو مركز الحركة الوطنية الفلسطينية في الوقت الذي تستشرس فيه السلطة في دفاعها عن "التنسيق" الأمني مع المُحتل. مَن المُستعد لقرار الدم مع الأخ قبل العدو؟


لا داعي لإسقاط السلطة، أُهجروها

لا داعي لإسقاط السلطة، فالثمن كبير، أهجروها فقط، اتركوها لهم، فكلما صَغُر دورها في الداخل، كلما قلّت قيمتها عند المُحتل، هذه القيمة التي بدأت بالتناقص أصلاً عندما قرّر غيرهم أن فلسطين التاريخية هي وجهته المقبلة.

يجب أن تُدرك بواقي الثورة أن ثقل النضال ضدّ العدو انتقل "موضوعياً" إلى خارج فلسطين بحكم تواجد القوى الفاعلة وأنه بالإضافة لضرورة مواصلة النضال في الداخل ضدّ المُحتل، فإن التركيز، فكراً وتحالفات ومكاتب سياسية وكوادر ومقاتلين، يجب أن يتبع مركز القرار الجديد.

يجب أن يُسلّم الفلسطينيون أن هناك مَن يقود حركة التحرّر العربية غيرهم وأنهم فصيل فيها وأن المعركة واحدة والعدو واحد وأن العيش من دون كهرباء في غزّة قد يكون نفسه في دمشق، وأن الاستشهاد في الخليل عظيم جداً ولكنه قد يكون بعَظَمَة الاستشهاد في أي مكان آخر إن كان بنفس التأثير!

أهجروها وعودوا مع المحرِّرين.