كيف ارتبط المنطق بالطب عند العرب
مؤلّفات الرازي وابن سينا ظلّت تدرس في جامعات أوروبا حتى أوائل القرن السابع عشر ( نفس الفترة التي وضع فيها فرانسيس بيكون قواعد المنهج التجريبي في الأورجانون الجديد ). لذلك لم يكن صحيحاً في رأي الكثيرين أن المنهج العلمي الوضعي هو وليد عصر النهضة الأوروبية من دون غيره من العصور.
كان الطب على وجه الخصوص جسراً بين العلوم واللاهوت . تم إعداد كثير من اللاهوتيين السريان ليكونوا أطباء بَدَن وروح معاً. وكان اللاهوت مُرتبطاً إلى حد كبير بالفلسفة والمنطق اليونانيين. هكذا أصبح المنطق شرطاً مُسبقاً لدراسة الطب. يعتقد أن تلازم الطب والمنطق كان جزءاً من إرث مدرسة الإسكندرية الذي ترجمه السريان.
لم يرتبط الطب بالمنطق عند هيروفيلوس عالِم التشريح الإغريقي السكندري في القرن الثالث قبل الميلاد ارتباطاً واضحاً. غير أنه كان يُمارِس التفكير المنطقي عملياًمن بدون أن يصوغه كمرحلة تمهيدية سابقة لدراسة الطب. كان يستخدم الفكر التجريبي في دراسته التشريحية ، وبه تحقّق من أن المخّ مركز الأعصاب. كما نسبت المدرسة التجريبية في الطب إلى أحد تلاميذه وهو فيلنيوس.
غير أن ارتباط الطب بالمنطق في مدرسة الإسكندرية شهد أعظم تطوّر له على يد جالينوس الذي زار المدرسة كثيراً، إلا أنه لم يكن منها. درس جالينوس الطب والمنطق في سن مبكرة نسبياً. أثر المنطق في تقسيم جالينوس الأمزجة إلى أربعة : الحار اليابس- الحار الرطب- البارد اليابس – البارد الرطب. امتدّ هذا التأثّر إلى تقسيماته لأعضاء الجسم وللنفس وللأمراض. كان القياس الذي يسهل الاستدلال هو طريقه في اكتشاف علاقات ضرورية بين حوادث مختلفة قد تبدو في ظاهرها غير مُترابِطة.
بعد أن نقل النساطرة سائر العلوم اليونانية إلى العرب عن طريق أكاديمية جندياسبور التي تدرّب فيها جبرائيل بن يختشوع طبيب هارون الرشيد، أسّس الخليفة المأمون بيت الحكمة الذي كان أغلب أعضائه من النساطرة، وفيه تدرّب حنين بن إسحق. وقتها بدأ المنطق يستحوذ على اهتمام العرب باعتباره وسيلة ضرورية لدراسة الطب. كان هذا تأثّراً واضحاً بفكر مدرسة الإسكندرية ووسيطها الحضاري في آسيا الصغرى من السريان.
كانت الترجمة موجودة منذ عهد الدولة الأموية، ولكنها كانت محاولات فردية تذهب بذهاب الفرد. مع الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور بدأ الإرساء لترجمة المعارف اليونانية وعلى رأسها الفلسفة والمنطق. مع تشابك المنطق والطب على مرّ الزمان تكوّن قسمان من الأطباء. الأول الطبيب الفيلسوف ( الممارِس) الذي يعنى باكتشاف وتشخيص وعلاج الأمراض، فالفلسفة عنده وسيلة للتحقّق من التجربة الطبية. الثاني الفيلسوف الطبيب ( المُدرّس ) الذي بدأ بالفلسفة ثم درس الطب من باب تكامل وتعدّد المعرفة.
كان أبوبكر الرازي ( جالينوس العرب) من القسم الأول. تأثّرت شروحاته وكتبه التي من أهمها الحاوي بالمنطق اليوناني. إلا أنه كان يُشدّد على أهميّة التجربة الطبية ويقدّمها على عِلم المنطق. فالذي يستسيغه العقل لابدّ من أن تصدّقه التجربة. وكان يُجري التجارب على الحيوانات وخاصة القردة لمعرفة التأثير الدقيق للمواد الدوائية المختلفة. كما أنه له فضل كبير في استخدام الضوابط في التجربة الطبية، فلكي يتحقّق من أثرالفصد في علاج مرض السرسام، قسّم المرضى إلى مجموعتين، مجموعة تُعالَج بالفصد والأخرى تمتنع، ثم يراقب الأثر والنتيجة.
أما إبن سينا فكان من القسم الثاني الذي يضع المنطق والفلسفة قبل الطب. ففي كتاب له مثل القانون نجد سيطرة واضحة للمنطق حتى على التبويب، فقد بدأ بالتشريح ثم علم وظائف الأعضاء ثم علم الأمراض وأخيراً علم العلاج، وهو نفس تبويب الكتب الطبية الحديثة. كما أنه رأى تشابهاً بين العرض في الطب والدليل في المنطق، الأول نعرف من خلاله طبيعة المرض، والثاني نسترشد به لاكتشاف ماهيّة المشكلة وطُرق حلها.
قبل الرازي وابن سينا جاء الفارابي في إحدى رسائله الفلسفية ليُسطّر الآتي " إن الأبدان ربما تكون صحيحة وتخفى حتى يظن بها أنها مريضة، وتكون مريضة وتخفى حتى يظن أنها صحيحة ، وتكون مريضة بنوع من الأمراض فتخفى ويظن أنها مريضة بنوع آخر، فيحتاج الطبيب إلى دلائل للصحة ودلائل تدلّ على المرض ودلائل تخصّ نوعاً وتدل ما يتميّز به نوع عن نوع ". ما ذكره الفارابي كان ربطاً منه بين المنطق والطب. استناد التشخيص الصحيح إلى عمليات الاستدلال المنطقي دلّ على عسر التطبيب من دون معرفة سابقة بالمنطق.
كذلك كان الأطباء الجرّاحون العرب ( المدرسة الطبية المحضة) دارسين للمنطق ومستخدمين له في اتخاذ القرار الطبي المناسب لحالة المريض وصحته، فأعلام هذه المدرسة مثل الزهراوي وعلي بن عباس وابن زهر الإشبيلي و موسى بن ميمون لم يتخلّوا عن القياس والتحليل المنطقي للأعراض.
لكن عند مُقارنة الطب العربي بالطب اليوناني يتّضح لنا أن الثاني كان قياسياً استنتاجياً يعتمد على المنطق أكثر من اعتماده على المشاهدة والتجربة كما لوحظ عند جالينوس، أما الأول فكان ماضياً في تطبيق قواعد المنهج التجريبي وإن بطريقة مضمرة ضمنية لم تتّضح ملامحها بعد. الأهم من ذلك أن مؤلّفات الرازي وابن سينا ظلّت تدرس في جامعات أوروبا حتى أوائل القرن السابع عشر ( نفس الفترة التي وضع فيها فرانسيس بيكون قواعد المنهج التجريبي في الأورجانون الجديد ). لذلك لم يكن صحيحاً في رأي الكثيرين أن المنهج العلمي الوضعي هو وليد عصر النهضة الأوروبية من دون غيره من العصور.