عندما نزلنا إلى الشوارع

تشكّل اللحظة الثورية المناسبة والقائد السياسي الحقيقي عنصران أساسيّان لأي ثورة ناجحة.

الأسوأ من عدم التقاط لحظة الثورة التاريخية الحقيقية هو إعلانها في الوقت الخطأ
يحاول بعض الغرب وإسرائيل ترويج فكرة أننا لا نملك القدرة كعرب على فعل وخلق أيّ شيء مهمّ، وأنه حتى هذه الهبّات الجماهيرية كانت من فعلهم وتدبيرهم لتقسيم أمّتنا وأوطاننا وتخريبها. الاستسلام لهذا المنطق جدّ خطير.

أذكر هنا وكمثالٍ فقط، أن مصر تكاد تكون شهدت أكبر نسبة إضرابات عمّالية في تاريخها في السنة التي سبقت هبّة 25 يناير، فهل برمجوا لنا هذه الإضرابات أيضاً؟

نجزم أن تعريف الثورة العلمي لا ينطبق على أي منها، ولكنّها كانت هبّات جماهيرية حقيقية تتفاوت نسبة نضوج عواملها الذاتية والموضوعية، ونسبة تدخّل العامل الخارجي فيها لاحقاً، سواء في الالتفاف على مُنجزات بعضها أو في استخدام هذه الهبّات نفسها للتحريض على "ثورات" مُشابهة في دول معادية، وصولاً إلى التجييش لأسقاطها بالعنف والترهيب. وما النتائج النهائيّة التي وصلت إليها كلّ من الهبّات التي "خفتت" إلا تعبيراً عن مُحصلّة هذا التداخل.

إذا كان الجدل قد حُسم في ما يتعلّق بهبّات مصر وتونس مع عودة الأنظمة السابقة إلى الحكم من جديد وإن كان بتحالفات جديدة، إلا أنه مازال مُستمرّاً بشأن ليبيا وسوريا واليمن.

سأتحدّث عن سوريا فقط، بحُكم الخلاف العميق، وبالتحديد عن طرفين أساسيين التبس عليهما الأمر فارتبكت مواقفهما.

هل الهبّة السورية استثناء؟

هي بالتأكيد ليست استثناء من ناحية أن هناك معاناة وظروفاً اقتصادية صعبة وتحديداً في الأرياف وضواحي المدن، وأن هناك فساداً يستوجب معارضة، ولكنها استثناء كبير في باقي المجالات: اقتصاد قوي واكتفاء شبه ذاتي، دعم للمقاومة وعداء لإسرائيل مستمرّ برغم الضغوط، عروبة وأصالة في باقي مناحي الحياة، فن، أدب وثقافة.

قد نختلف على الدرجة و المقدار، ولكننا لن نختلف على أنّ القمع سيتبع الفساد حتماً لحمايته، وهذا معترف به حتى من الرئيس السوري نفسه في خطاب القَسَم وفي خطاب آخر في العام 2005 وقبل أية أحداث، أي أنه لم يكن مُضطراً للاعتراف بذلك تحت أي ضغط مباشر وآني.

الاستنتاج هنا، على أساس واقع الحال وليس على أساس ما كان من الممكن أن يفعله الرئيس لمحاربة هذا الفساد، ولِمَن درس تاريخ الثورات الناجحة والفاشلة، أن محصّلة الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية في سوريا لا توحي بلحظة ثورية مناسبة، بل هي في أدنى درجاتها مقارنة بباقي الدول العربية غير النفطية.

بالتأكيد كانت هذه التساؤلات تطرح نفسها أيضاً على التقدّميين مُتخصّصي الثورات في سوريا عند بداية الأحداث، بمعنى وعيهم لعدم النضج الكامل لظروف الثورة (وهذه شهادات شخصية)، إلا أن أمل البعض منهم بركوب أمواج تونس ومصر، مع تنحية مبارك وزين العابدين دفعهم للمغامرة، علّ وعسى ...

قد نبرّر لأي كان أن لا يفهم حجم المشروع وخصوصية المشكلة السورية، ولكنّنا لن نبرّر لطرفين تورّطا بالأزمة بشكل مباشر وساذج ومن الأيام الأولى، بالنظر إلى تاريخ من نضال ووعي مفترضين: 

أولاً، القوى الوطنية والتقدمية السورية في تعاملها مع نظام له الكثير من الإيجابيات كما السلبيات، وفي رأيي أنه لم يكن هناك من إبداع في ابتكار وسائل النّضال لحلّ الإشكال من دون تحطيم الدولة والوقوع بسهولة في فخ "الثورة الناضجة" والارتهان للخارج كتعبير عن إحباط تاريخي.

ثانياً، القوى الفلسطينية على اختلاف اتّجاهاتها. فبعضها، اليساري تحديداً، تردّد كون هذه "الثورات" نظرياً تقع في عمق معتقداته وتحالفاته مع القوى السورية أعلاه، وبعضها مرتهن للخارج أصلاً بحكم تمويله، فانتظر ثمّ مالَ كما مالوا مع ادِّعاء الاعتدال والحيادية وإسلامييها الذين بُشّروا بمستقبل أفضل في مصر الإخوانية، مُتناسين جميعاً خصوصية المشكلة السورية كما أسلفنا، وأنّه ما من نظام عربي كان أفضل من النظام السوري في تعامله مع الفلسطينيين.

في شهادة شخصية لبعض التقدّميين السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع ومنذ اليوم الأول، ومنهم من خسر أقرب الناس إليه، قالوا:

"عندما نزلنا إلى الشوارع لم نجد الناس الذين نزلنا من أجلهم"!

هذه العبارة تُلخّص بشدّة، القوانين التي لا يمكن للثورات الناجحة أن تتجاوزها:

* ظروف موضوعية ناضجة تعني أن غالبية الجماهير مُستعدّة للتضحية.

* عوامل ذاتية قوية يجسّدها حزب ثوري.

* لحظة ثورية مُناسبة يُحدّدها قائد عظيم.

إنّ ما عدا ذلك من "حالات" ثورية هي مُجرّد تسميات مختلف عليها.

كما أنّ الأسوأ من عدم التقاط لحظة الثورة التاريخية الحقيقية والسير بها نحو النصر هو إعلانها في الوقت الخطأ، فيموت الروّاد والمتحمّسون والمُغرّر بهم من دون ثمن.