ربيع الشعبوية الغربية

لم تعد الشعبوية أبداً تلك التهمة التي يتقاذفها رجال السياسة في جلّ الحوارات والمُناظرات استنقاصاً من قُدرة خصومهم على الحَجَاج العلمي والمنطقي، فبعد طلاق بريطانيا التاريخي من الإتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية أصبح للشعبوية مفهوم مُستحدَث يُعادِل الإستراتيجيا الفعّالة في حشد التأييد والمُناصرَة.

خطاب دونالد ترامب كأنموذج من الخطاب الشعبوي الغربي
إن في الأمر دعوة مُلحّة لمُراجعة المَعجَم السياسي بالكامل إذ يبدو أن إيديولوجيا التخويف واللعب على عاطفة الجماهير سائرة لا محالة نحو مزيد من الإزدهار، كما يبدو أن نجاحاتها لن تتوقّف عند البريكسيت البريطاني ولا عند الرئيس الأشقر الجديد. ففي المثال البريطاني وجدت دعوات الخروج من الإتحاد الأوروبي قاعدة كبيرة من المؤيّدين وحتى من المُتعصّبين المُتطرّفين الذين آثروا الانغلاق على أنفسهم ورفضوا ما اعتبروه "وصاية" أوروبا عليهم اقتصادياً وسياسياً. وقد تزعّمهم حينها النائب في البرلمان ووزير الخارجية الحالي بوريس جونسون الذي وصف استفتاء الخروج بأنه " انتفاضة شعبية كبيرة ضدّ نظام بيروقراطي قديم خانِق أصبح تشبّثه بالديمقراطية غير واضح ".

جونسون نفسه، إبن العائلة المُهاجِرة أقنع أنصار البريكسيت بأن سياسة الحدود المُغلقَة ستكون مُجدية وبأنها ستمنح لبريطانيا فرصة قيادة أوروبا من خارج الإتحاد! إنه بلا شك خطاب شعبوي بامتياز حرّك الكبرياء البريطاني الدفين وحُلم الزعامة الأبدي ولعب على وتر الولاء المُتعصّب لبريطانيا الذي أفضى إلى اغتيال النائبة المُناهِضة للخروج جو كوكس.

أما في الولايات المتحدة فكان خطاب الدعاية للمُرشّح الجمهوري دونالد ترامب موضع انتقاد دائم من الديمقراطيين ومن مُختلف الأوساط السياسية والإعلامية المحليّة والعالمية حتى أن رجل المال والأعمال أضحى محلاً للسُخرية والتندّر، لكن أحداً لم يُدرك أن خطابه كان أقرب إلى وجدان الأميركي البسيط وأكثر إلماماً بمشاغله اليومية وبمخاوفه المُبرّرة وغير المُبرّرة، علاوة على أن ترامب قدّم نفسه كأنموذج للرجل الأمريكي المتفوّق ثروة وسلطة.

 

إن الخطاب الشعبوي يتبنّى مخاوف المواطن البسيط ويُسطّر على ضوئها البرامج والوعود الانتخابية فلا يُكلّف نفسه عناء البحث والتخطيط، إنه نوع من خطابات الطمأنة والانخراط في الفكر الجماهيري السطحي، ولذلك يراه الكثيرون أقرب إلى همومهم من خطاب النُخبة المؤسّس على المُعطى العلمي والواقعي. وفي المُقابل أفصح وعي المواطن الغربي أخيراً عن فقرٍ في الرؤى والأفكار وعن عجزٍ في الاستدلال والتحليل، وأصبح فريسة سهلة لكل خطاب شعبوي يُدغدغ عواطف الانغلاق والانفصال والتقوقُع ويبعث على الإحساس بالأمان إزاء عولمة الفوضى والإرهاب.

إن الشعبويين ينتقون جيداً فئة الناخبين التي تُذعِن لدعايتهم الديماغوجية وتُسلّم بها وهي الفئة الهشّة ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً والتي يتملّكها دائماً الإحساس بالاستضعاف فتجنح للبحث عن أمنها المالي والجسدي.

ففي ألمانيا آلت سياسة المُستشارة أنجيلا ميركل بخصوص استقبال اللاجئين إلى تدهور شعبية الأحزاب الحاكِمة ( حزب ميركل المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي ) حيث استغّل اليمين المُتطرّف مشاعر المُعادين للهجرة لهزيمة الجهات الحكومية في الانتخابات المحليّة بما في ذلك ولاية ميركل ميكلينبورغ.

وعلى شاكلة ألمانيا تلقَى شعارات الجبهة الوطنية اليمينية المُتطرّفة بزعامة مارين لوبان تجاوباً لدى الكثير من الفرنسيين، حتى أن الخوف بدأ يتعاظَم من تكرار مشهد الصعود الدرامي لترامب على عتَبات الإليزيه. كل هذا يجري وسط دعوات شرقية وغربية مُتكرّرة بالخروج عن بيت الطاعة الأوروربي.

فإن نجحت الشعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة في الإيفاء بالتزاماتها وهو ما لا يُمكن استبعاده، فقد نشهد في السنوات القليلة القادمة على ربيع شعبوي يعصف بوحدة أوروبا الاقتصادية والسياسية ويعزل أميركا عن العالم الجديد ويقلب نهائياً مُعادلة الزعامة.