سوريا، معركة "ثاناتوس" الأخيرة

يذكرون إسمها العزيز على فؤادك فتقفز من المسامع إلى الذاكرة صورتها البهيّة كفتاة تلقنّك الحب وأنت الصغير على مفردات العشق والهوى فلا تقوى إلا على النظر إلى وجهها الباسم والتسبيح بجمالها الأزلي.

ستنتصر سوريا في النهاية لأنها أثبتت أنها رقم صعب في كل المعادلات
سوريا التي أتيتها وتموز يحتفل ذات صيف صاخب لأشارك في ملتقى الطفل العربي، كنت بها صبياً ساذجاً وحالماً وكانت هي أطلس السلام وقبلة العشاق فاحتفت بي واحتفيت بها وعلى أكفّ الراحة حملتني، كأن لا ضيف سواي، بين النزل والمقاهي والمطاعم والأسواق والجوامع والكنائس فشغلتني عن الأهل والوطن بعدما ظننت كل الظن أن عرش تونس في القلب لا يرضى مزاحماً ولا خليلاً.

سوريا التي علّمتني كل شيء، الشعر والمسرح والحياة، مازالت تحفظ بداخلي صورة الفنان العظيم "نضال سيجري" وهو يثبت وقفتي الخجولة على خشبة دار الأوبرا في دمشق وتطبع بذاكرتي إطلالة الجميل "حسام تحسين بك" وهو يؤدّي دور الحكواتي ويسرد علينا، بفخر يملأ عينيه، تاريخ الشام المرصّع بالنصر والحضارة.

سوريا التي حملتنا إلى الجولان المُحتل فخاطبنا أهله بالمصادح والأبواق وتعالت أصواتنا بدعوات الصمود والمقاومة حتى اختلط الحزن بالعزم وضربت لنا آية في المدنية والتسامُح من دير مارا تقلا بمعلولا الطاهرة، سوريا هذه كانت تقول لنا في كل لحظة أنها جميلة ممانعة وفاتنة عصية وأن أهلها وتاريخها هم حصنها الحصين وأن الجامع أزلّي وأن الاختلاف محمود لا يُفضي إلى الفرقة الصمّاء القاتلة.

سوريا التي أعرفها كانت هادئة في أزقة دمشق القديمة صاخبة في سوق الحميدية خاشعة في المساجد والكنائس حافلة في المقاهي، وعلى الأرصفة، جلبة الممشى جيئة وذهاباً تصنع لحناً شرقياً يُعطي لقهوتك الشامية روحاً ومعنى كأنك تبعث من فنجانك الصغير.

اليوم تصلنا أخبارها فنأسى ويهم بنا الدمع لولا أن تأتينا بشائر نصر قريب على جحافل العدوان الغاشم الزاحفة عليها من كل بر. الآن نشاهد زعيمهم ثاناتوس، إله الموت عند الإغريق، يترنّح في ساحات الشهباء الخالدة بعدما أعجزه صبر الثكالى وابتسامات اليتامى من خلف الدموع.


قولوا عنا ما شئتم وانتقوا لنا ما طاب لكم من السباب والشتائم فقد كنا سذجاً مثلكم  وجرفنا تيّار الثورجية قبلكم وهتفنا طويلاً بالديمقراطية والحرية لسوريا حتى شاهدنا بأم أعيننا بارونات المال والسلاح ونكرات التاريخ والحضارة تفتح المعابر والمنابر للجهل الدامي وتبين لنا أنه عين الباطل ولو كرهتم..

نعم نقولها صراحة : نحن مع النظام لأن قضيته هي العادلة ولأن الحرب مفتعلة ولأنها حرب وجود يرجى منها كسر شوكة سوريا في المنطقة خدمة لمخطّطات توسعيّة مفضوحة يتوهمّ أصحابها أنهم أباطرة على عرش مملكة ممتدة.

نعم نقولها ملء أفواهنا : نحن مع الرئيس الأسد ومع محور المقاومة ومع كل من يذود عن وحدة سوريا وسلامة أراضيها لأننا بلغنا مرحلة أصبح فيها بقاء الدولة من بقاء النظام وزوالها من زواله ولأننا أخذنا العبرة مما يجري في ليبيا ومما جرى قبلها في العراق واستوعبنا أخيراً أن بشّار الأسد، شأنه شأن معمر القذافي وصدّام حسين، ديكتاتور وسيبقى كذلك ما لم يرضخ لحكم "الأقوياء" وأن تهمة الديكتاتورية ستوزّع دائماً حسب مزاج هؤلاء مع مُراعاة خانات الولاء والصداقة ومصالح المال والاقتصاد.


ستنتصر سوريا في النهاية لأنها أثبتت أنها رقم صعب في كل المعادلات وهو ضرب من اليقين تشكّل وتماسك في قرارة من يحاربون النظام على الأرض ومن خلف الستائر حتى لازمهم اليأس ولاحت لهم عناوين الفشل. لذلك لن ينضب دعمنا للحبيبة في معركتها ضدّ الموت والهمجية ولن تنضب من قلوبنا دعوات النصر الصادقة أما خصومنا في الرأي فقد يكفيهم النظر لتدمر لعلّهم يدركون أنه عدوان على الزمان والمكان وأن مرمى الغُزاة هو سوريا ذاتها لا رئيسها ولا نظامها ولكن خصومنا قليلاً يتدبّرون..