الاستشراق عن بعد

يقول عصام الخفاجي وهو أستاذ في جامعة أمستردام، لصادق جلال العظم (الحياة 13/12 /2016) التالي: (أدرّس كورساً عن تكوّن الدول والهويات في المشرق وأوروبا. مزروعة في فكر الدارسين الشبّان و "خبراء الشرق الأوسط" نظرية /خرافة ، تقول أن لا هويات وطنية لنا، بل كتل بشرية أختار المستعمرون أن يضعوا هذه الكتلة هنا وتلك الكتلة هناك، على عكس ألأوروبيين الذين كانوا أمماً كونّت دولها "في شكل طبيعي" كما تمضي الخرافة).

لا يستطيع الكاتب أن يدلّني على هوية وطنية واحدة جامعة مانعة خالية من الطائفية والعشائرية القبلية والمافيات السلطوية
طبعاً هذه الأسطر ليست مقطوعة من سياق، لأن الكاتب لا يعود إلى هذه المسألة لمناقشتها بل يكمل مقاله في حكايات تجمعه بصادق جلال العظم، وهذا ما دعى إلى التساؤل ليس عن العلاقة المقطوعة بين هذه الأسطر وعموم المقال فهذا شأن الكاتب، ولكن عن الخلطة السحرية مسبقة الصنع التي تجعل من المنظومات التفكيرية مجرّد خرافات، في استلال سريع لخنجر التخوين المعرفي "لهم"، هؤلاء البلهاء! المضحوك عليهم!

من الذين يدرسون "الدول والهويات" متكئين على خرافة، في قسر واضح لمعنى الكتلة البشرية ليصبح مجتمعاً ناجزاً ذا هوية ودولة، وفي نكران نفسي جاهز ومستمر لمعنى الهوية، إلا كما يراها هو / نحن ، وإلا كانت خرافة ، ما يشكّل اعتداء واضحاً على كل ما أنتجته هاتيك الثقافة التي يعتقدها أبناؤها، حيث يبدأ الكاتب بتشليحهم هويتهم "هم" لأنها مجرّد خرافة على حد زعمه. لتبدو محاولته إعادة "هؤلاء" إلى جادة الصواب محاولة كوميدية من الطراز العبثي.

نعم لم يكن ألأوروبيون أمماً بالمعنى الذي آلت اليه المعرفة الاجتماعية المعاصرة (وهذا ما يعرفونه "هم" بالتأكيد)، ولم يصبحوا كذلك إلا بعد عصر الأنوار، بعد تحديد مفاهيم المجتمع والأمة والقومية والدولة  إلخ، إذ تحوّلوا بالإنتاج إلى مجتمعات أولاً ومن ثم إلى أمم بواسطة الدولة لهم هويتهم الناجزة المفهومة والنافعة، فأين الخرافة بالتحديد؟ وهم اليوم أمم تتجاوز قومياتها إلى رحابة القارة ومن ثم مَن يدري قد يصبح العالم كله أمّة واحدة.

هنا يبدو أن لدى الكاتب مفهوماً سرّياً للهوية، لا يعرفه تلامذته، أو لم يتربوا عليه أو لا يقنعهم وهو ما يشكّل صدمة نفسية عميقة تؤدّي إلى رفضهم بأفكارهم ومفاهيمهم بتشبيكها مع الخرافة، تلك العملية الاجتماعية التي قام بها الأوروبيون ومن ثم الكثير من شعوب المعمورة، ما هي إلا مجرّد خرافة برأيه ، "لأنهم" لم يستطيعوا تبيّن هوياتنا التي اخترنا لها مفاهيم سرّية، أو غير مفهومة بالنسبة إليهم!. إنهم "هم" مَن يؤمن بالخرافات، والدليل قبولهم بمقولة أن لا هويات وطنية لدينا. حسناً لنرى أين الخرافة من الحقيقة المعلنة؟

طبعاً لا يستطيع الكاتب أن يدلّني على هوية وطنية واحدة جامعة مانعة خالية من الطائفية والعشائرية القبلية والمافيات السلطوية، ليس لأنه لم يطرح مفهوماً معايراً للهوية وهي شأن حداثي بالضرورة، بل لأنه لا توجد عند هذه الكتل "الوطنية" السكانية هوية نابعة من ذاتهم كمؤسّسين لمجتمع ومولّدين لدولة، فجميع الكتل السكانية التي تحمل تذاكر وبسبورات باسم دولة، هي من صنع المستعمرين وبالتقاسم والتصالح في ما بينهم، فأين الخرافي في هذا الموضوع ؟!

ولعل كلمة "الوطنية" التي أطلقها السيّد الكاتب، هي مثار للحيرة واختلاط المقاصد، فلا أحد يعلم ما هي هذه الوطنية ناهيك عن هويتها أو هوياتها المتداخلة المتشابكة (بموزاييك جميل) يُراق على جوانبه الدم. فالوطن هو شيء غير البلاد تماماً، والمواطن هو عضو من درجة واحدة في وطن يقوم على اقليم (بلاد)، فبأي معنى أراد لنا الكاتب أن نفهم الوطنية، وأن نتفّهم ونفهم ما قبلها من مفردة "الهويات"؟ ربما هذه الأسئلة الموجهة إليه تحشد خلفها آلاف إشارات الاستفهام، عن ماذا يقصد وماذا يريد ؟. والأهم ماذا يريد من تلامذته الجامعيين الخبراء في الشرق الأوسط، أن يفهموا؟ لأنه على هذه الحال لن يفهموا شيئاً !، فهم على علم ومعرفة كيف تنشأ المجتمعات والدول والهويات، ومن اتهام معرفتهم ورميها بالخرافة يتّضح أنه من المطلوب "منهم" أن يتراجعوا عن معرفتهم هذه لكي يتساووا معنا ومن بعدها ننطلق من جديد شرط قيادتنا وريادتنا لهذه الانطلاقة.

يقال بالعامية ( ثخينة أو ثخنّتها ) وأضحى من الواجب أن يعطيك أحدهم (إشارة) على طريقة السيّدة فيروز والراحل نصري شمس الدين، إذ لا بدّ من أنك تمزح معنا، فلو كنت مدرّساً في جامعة بغداد أو دمشق لمررناها، ولكن في جامعة أمستردام ؟!!!

يا سيّدي ليس لدينا هويات وطنية لا جامعة ولا جزئية، فالهوية إعلان حداثي عن وطن ومواطنين مُنتجين، ينافسون الأوطان الأخرى بمنتجاتهم وإبداعهم، وليس لدينا أوطان لا موحدة ولا مقسّمة فالأوطان تحتوي على مواطنين (كما حالك في هولندا مواطن من نفس درجة بقية المواطنين بلا تاريخ مجيد و لا إنتاج فريد)، كدليل على وجودها أولاّ وهويتها ثانياً، والاستعمار شكّلنا حسب مصلحته، ولكننا لم نعترض عملياً ( وأقصد هنا معرفياً ) على أحكامه واقتساماته، بل شاركناه كوكلاء عنه في إدارة الشؤون التي تركها لنا .

إن أية جردة حساب منذ عام 1850 على الأقل إلى يومنا هذا، سوف تُنبئنا بفشلنا الذاتي، لأننا لم نتفاعل مع خرافة "هم" أو هؤلاء ولم نأخذ مفاهيم عصر الأنوار على محمل الجدّ، بحيث نبيئها ونخضعها لخصوصياتنا، ونخضع للاستحقاقات وجودنا على الشاكلة والجوهر الذي تتعامل به البشرية جمعاء في أيامنا هذه، لذلك أطلب منك التفتيش عن هوياتنا الوطنية في مساقط شلالات الدم في البلاد.

لا لا يبدو في ما قاله السيّد الكاتب أدنى غلّة علمية أو معرفية، فما هي إلا شعارات حائلة لا يمكن تجريبها على الكائن البشري، أو يمكن أن يجرّبها الكائن البشري نُخبة كان أم دهماء، فما هي إلا معلومات سامة، مستلّة من سلّة الخرافات "العربية " الكبرى.