الحرب على سوريا: نهاية القانون الدوليّ أو نهاية قانون دولي كولونيالي؟
إنَّ الفهم الصحيح للحرب على الأمة العربية وللعدوان علينا، نحن المشرقيين العرب، وعلى سوريا، يؤكد أنَّها كلها، فضلاً عن غيرها، حلقات من حلقات الهيمنة الإمبريالية.
أيّ نظام قانونيّ هو بالضّرورة انعكاس لأمرين أساسيين، هما موازين القوى واتجاهات السلطة داخل المجتمع المحكوم به من جهة، والقيم أو المصالح التي تحرّك الفاعلين أو اللاعبين المؤثرين في ذلك النظام القانوني من جهة أخرى.
اطَّلعتُ قبل أيام على مقال للكاتب الفرنسي تييري ميسان بعنوان "نهاية القانون الدولي" على أيدي المركز الاستعماريّ المتمثّل بالولايات المتحدة وأذرعه الأوروبية. وقد أوضح ميسان أنَّ المركز الاستعماريّ، من خلال ممارساته المخالفة كلّياً لمبادئ الأمم المتّحدة ورسالتها في تجنّب الحروب وويلاتها، يعمل على تقويض ركائز القانون الدّوليّ المعاصر جميعها.
على أيِّ حال، من اللافت للنّظر كذلك علوّ أصوات الكثير من الشرفاء ممن نعوا القانون الدولي بمناسبة الحرب الأطلسية على سوريا، وذلك ليس إلا حرصاً منهم على سيادة القانون والعدالة، ورغبة منهم في إقامة مجتمع دولي منضبط ومحكوم بالقانون.
وعلى الرغم من اتفاقي معهم، وبالطبع مع تييري ميسان، في الغايات، فإنّي لا أشاطرهم الرأي بالنسبة إلى المآلات والنتائج؛ فالعدوان على سوريا ليس نهاية للقانون الدولي بقدر ما هو نهاية لقانون دولي كولونيالي، وبداية لنشوء قانون دوليّ عادل وأكثر إنصافاً للمقهورين والمستغلين، فالتاريخ يدلّ بوضوح على أنّ حالات النهوض الاجتماعي لا تكون ممكنة في الغالب إلا عقب ويلات وتغيّرات عنيفة وارتكاسات كبرى.
والواضح أنَّ المحور العالميّ المناهض للإمبريالية، الذي يضمّ كلاً من الصين وروسيا والقوى الأخرى الحية في هذا العالم، يحاصر أعتى قوة إمبريالية عبر التاريخ، وهي الولايات المتحدة الأميركية، ويحشرها وتوابعها الأطلسية، بحيث أضحت القوة العسكرية الأميركية مشلولة وغير قادرة على ممارسة دورها التدخلي السابق، وعاجزة عن تحقيق انتصارات عسكرية.
بدا ذلك واضحاً من عدوانها على سوريا، فكان تدخّلها مذلاً، وكان يعكس حالة الشلل العسكري التي وصلت إليها. وإذا تمكَّنت سوريا من إدامة ذلك العجز، فلا ريب في أنها ستساهم في تغيير العالم، وفي النتيجة إبدال القانون السائد منذ الحرب العالمية الثانية بنظام قانوني غير إمبريالي، فالنظام القانوني الدولي الحالي بالغ في الظلم وفاحش في إدامته سيطرة الإمبريالية على شعوب العالم، رغم مبادئه السامية التي عبَّر عنها ميثاق الأمم المتحدة.
ولكن هذا النظام مكَّن المركز الإمبريالي من معاداة أي محاولة للتغيير الاجتماعي على الصعيدين الوطني والدولي، وكان أداة طيّعة ومطيّة بين يدي الولايات المتحدة للوقوف في وجه محاولات التغيير جميعها، إذ دأبت على استخدامه في البداية كأداة لمحاصرة القوى المناهضة للاستعمار والهيمنة الإمبريالية دبلوماسياً واقتصادياً، ثم في نهاية المطاف وسيلة لتبرير تدخلات عسكرية ظالمة.
وعندما سيصبح الغزو الأميركي غير ممكن بسبب صمود سوريا، سيترنح النظام الإمبريالي الأميركي كله، وسيهوي معه في النتيجة النظام القانوني الدولي المتساوق معه، لحساب قانون دولي أكثر عدالةً وإنصافاً وإنسانية.
منذ ما يقارب 30 عاماً ونيفاً، أضحى النظام القانوني الحالي (وهو إمبريالي بالطبع) يتقنّع بقناع إنساني ليبرر التدخلات العسكرية الأميركية، فظهرت مفردات عدة، من قبيل حقوق الإنسان، وواجب التدخل الإنساني، ومسؤولية الحماية ومكافحة الإرهاب، ذرائع لتبرير تدخلات عسكرية أحادية ذات نزعة إمبريالية، وهي مفردات غايتها، بالنسبة إلى المركز الإمبريالي العالمي، التلطّي بمسوغات أخلاقية، وهي ليست أكثر من عملية خداع تستهدف منح المركز الإمبريالي امتيازات اقتصادية وسياسية وجيوسياسية.
منذ العام 1991، يدير المركز الإمبريالي العالمي وأدواته وتوابعه حروباً مستمرّة ضد دول عربية لم تكن قد اندمجت في السياسات النيوكولونيالية، ولم تخضع لسيطرة المؤسسات المالية العالمية، كصندوق النقد الدولي، فكان العديد من تلك الدول عرضة لتدخلات المركز الإمبريالي باسم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان تارة، وباسم مكافحة الإرهاب أو بذريعة الأسلحة الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل تارة أخرى، وهي حروب أبعد ما تكون عن الغايات الإنسانية، وهدفها الحقيقي تطويق كل من وروسيا والصين، وتوسيع نطاق النهب الجغرافي والنفوذ السياسي للولايات المتحدة الأميركية.
والسؤال الذي يسأله الكثيرون: لماذا يوشّح الغرب حروبه بقيم إنسانية مزعومة؟ ولماذا يسعى لأن يظهر بمظهر الحريص على الآخر والمدافع عن قيم الحضارة والإنسانية؟ الجواب أن الغرب يؤطر مشروعه الإمبريالي بأيديولوجية إنسانوية وبقيم مزعومة، ليفرض نظامه على العالم على أساس أنه يعمل لخدمة الشعوب، وليس لقهرها، فهذا الوشاح الإنساني يؤمّن للاستعمارية الجديدة وجهاً إنسانياً يخفي الوجه الحقيقي للغرب، وهو وجه متوحّش، ويفضي إلى إرضاء ضمير رأيه العام المستلب.
لقد تنبَّه عالم الاجتماع المكسيكي بابلو غونزاليس إلى هذه الظاهرة، وأطلق عليها "ظاهرة الليبرالية الجديدة المسلَّحة" التي تعمل تحت غطاء إنساني لإفراغ المفاهيم الإنسانية من محتواها، وكيِّ وعي الرأي العام، لأن أحد أكبر أعداء الإمبريالية الأميركية هو الرأي العام.
ويبدو أن جهود الاستعمارية الجديدة في تغييب الرأي العام العالمي تكلَّلت ببعض النجاحات، إذ لزم الرأي الغربي الصمت إزاء الحرب على سوريا، وربما تبنّى المقولات الإنشائية الزائفة، واقتنع فعلاً بأن الغرب يقاتل وحشاً مدجّجاً بالأسلحة الكيماوية، وأن ثمة تدخلاً إنسانياً ضرورياً للجمه.
وبالعودة إلى النظام القانوني الدولي، وبالربط بينه وبين التشخيص السابق لدور المركز الإمبريالي داخل هذا النظام، من الواضح أنَّ الولايات المتحدة تؤدي دوراً مشابهاً تماماً لدور التحالف المقدس الذي كانت غايته القيام بتدخلات عسكرية لسحق الثورات في أوروبا في القرن التاسع عشر؛ فالولايات المتحدة الأميركية، بصفتها المركز الإمبريالي، سعت إلى إدامة نظام قانوني كولونيالي يخدم تدخلاتها المتّشحة بقناع إنساني، وهو نظام قانوني يشكّل امتداداً طبيعياً لذلك الذي كان سائداً إبان التحالف المقدس، مع تغييرات شكليّة لا جوهرية.
إنَّ الاستعمارية الجديدة تسعى إلى السيطرة العسكرية، وكل سيطرة عسكرية تحتاج إلى أيديولوجيا تبررها، وهي أيديولوجيات مبنية على حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية، وهي أيديولوجيا النظام القانوني الحالي والبراديغم الأساسي له، وتمثل حصان طروادة لتبرير التدخلات الغربية في مواجهة حركات التحرر والمقاومة للإمبريالية والاستعمارية الجيدة، فالنظام القانوني الكولونيالي الحالي اتخذته الولايات المتحدة مطيّة لتبرير ما أطلق عليه وليم بلوم "الهولوكوست الأميركي" المستمر ضد الدول التي تقف في وجه الاستعمارية الجديدة التي تشنّ حروباً مباشرة أو بالوكالة، من خلال دول عميلة أو جماعات إرهابية مسلحة بشكل مستمر لا يتوقف منذ العام 1945.
هذا الهولوكوست الأميركيّ المستمرّ يندرج ضمن سياسة منهجية لخدمة الإمبريالية، من بين أدواتها استخدام "قانون دولي كولونيالي" كوسيلة داعمة لتلك السياسة ومسوّغة لها؛ فالقانون الدولي الكولونيالي الحالي باتخاذه من حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية ومكافحة الإرهاب وتنمية الشعوب قيماً مرجعية له، يُيسّر استخدامها كذرائع في يد الإمبريالية. ربما يكون أفضل تشبيه لتلك الحالة هو حالة من يغتصب امرأة متخذاً الوسائل الاحتياطية الواقية من نقل أمراض جنسية إليها.
ويبدو أن المرحلة التي ستلي الحرب على سوريا ستغيّر هذه المشهدية تماماً، لأنَّ سوريا تمكَّنت إلى الآن من تجميد الآلة العسكرية الغربية ووكلائها، ما يعني أنَّ هناك فرصة حقيقية لتحفيز القوى المناهضة للإمبريالية ونشوء قانون دولي عادل وإنساني. وما يعزز فرص القوى المناهضة للاستعمارية الجديدة في هذا المضمار هو افتقار سائر حروب الولايات المتحدة المباشرة أو بالوكالة إلى شرعيتها القانونيّة. لذلك، نرى أنَّ كلاً الصين وروسيا تسعيان دائماً داخل مجلس الأمن لمنع الولايات المتحدة من الحصول على أية شرعية لتدخلاتها في سوريا.
ولهذا السّبب، يشنّ السّاسة الأميركيون وتوابعهم الغربيون هجوماً سافراً على مجلس الأمن والقانون الدولي، لأنّه لا يتيح لهم، بسبب امتلاك القوى المناهضة للإمبريالية زمام المبادرة، القيام بتدخلات أحادية، فالمطلوب فعلاً لتخليص العالم من الشر، ولحفظ أمنه واستقراره، إضعاف الولايات المتحدة ولجم تدخلاتها العسكرية، وهو ما بدأنا نلمسه أثناء الحرب القذرة على سوريا عملياً وعملاتياً وقانونياً.
ولا يمكن الاستناد إلى تحريم الحرب وتجريم العدوان في القانون الدولي بصفته الوسيلة الوحيدة لمنعها، ولكن يتوجّب لجم المركز الإمبريالي المتمثل بالولايات المتحدة عن الإتيان بتدخلات عسكرية، ومنعها من استخدام القانون الدولي والأمم المتحدة كأدوات تخدم مشروعها الإمبريالي، وتأكيد الثوابت القانونية.
من جانب آخر، يتعيَّن التركيز أثناء عملية تهذيب القانون الدولي وتخليصه من رواسب الإمبرياليَّة على أنَّ حقوق الإنسان والديمقراطية، وإن كانا ضروريين، إلا أن تقدم الشعوب ورفاهها لا يتحقق من خلالهما فحسب، وأنهما وحدهما ليسا كافيين، فالدول الغربية لم تحقّق تقدمها بسبب هذين العاملين فحسب، لكن تراكم الثروة لديها جراء الاستعمار والنهب والحروب، والعمالة الزهيدة الثمن، وسرقة ثروات الشعوب، ساهم جميعها كذلك في تقدّمها ورفاهها.
وقد استغلَّت الإمبريالية القانون الدولي على مستويين؛ الأول حماية الأوباش وإضفاء هالة من الشرعية الكاذبة عليهم، والأوباش هم الجماعات الإرهابية المسلَّحة والنظم السياسية التي مارست إجراماً بحق شعوبها خدمة للإمبريالية، فالولايات المتحدة استساغت منذ زمن معاشرة هؤلاء الأوباش، وقبلها بالطبع الدول الاستعمارية الأخرى، كفرنسا وبريطانيا. والمستوى الآخر، شيطنة الحركات المناوئة للاستعمار وتجريم أفعالها ووصفها بالإرهاب.
وليس سائغاً لنا ونحن نراقب هذا المشهد المؤلم في القانون الدولي أن نعلن وفاته ونهايته، بل لا بد من تطهيره من تلك الاستخدامات الإمبريالية، وهو ما سيكون عقب انتصار سوريا على المركز الإمبريالي وأوباشه.
تقدّم لنا الدّول التي تواجه الإمبريالية الغربية اليوم، مثل روسيا والصين، سنداً ودعماً لإنشاء قانون دولي عادل يعبّر عن تطلّعات البشرية كلّها، فصمود سوريا ذاتها وانتصارها من أهم العوامل التي تدعم نضال الإنسانية ضدّ الإمبريالية، فلولاها لما انشلَّت القدرة العسكرية الغربيّة، ولما لجمت النزعة التدخلية الغربية.
وحتى يتسنّى لنا الخروج من "الهولوكوست الأميركي" وإقامة قانون دولي عادل، لا بدَّ من العمل على تغيير العقلية الغربية على الشكل الآتي: أن تترك الاستعمار وتقتنع بأنه من مخلّفات الماضي، وأن تؤمن بوجوب احترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير المصير، وأن الغرب ليس وصياً على الدول والشعوب الأخرى، وليس مطلوباً منها أن تتبنّى نموذجه الاجتماعي ونمطه الاقتصادي والسياسي، وأن تتوقف عن ترويج أكاذيب اقتناء السلاح الكيماوي وأسلحة الدمار الشامل والإرهاب وارتكاب الدول التي يخطط لتدميرها جرائم فظيعة راح ضحيتها الآلاف من القتلى، وأن يمتنع عن تبرير التدخلات العسكرية ضدها تحت تلك الذرائع.
وأخيراً، أن يتواضع الغرب في علاقته مع دول الجنوب، ويتخلّص من عقدة التفوق تجاهها، وأن يدرك كذلك أننا إذا قبلنا من زاوية القانون الدولي بأن تتذرّع كلّ دولة بذرائع واهية للتدخل في شؤون دولة أخرى، مثل وجود حرب أهلية أو حركات إرهابية فيها أو حيازتها سلاحَ دمارٍ شاملٍ أو سلاحاً كيماوياً، فسنصل حتماً إلى نقطة يحارب فيها الجميع ضدّ الجميع، وهو أمر يخالف رسالة الأمم المتّحدة والوظيفة الأساسيّة للقانون الدّولي.
في بيان استقلال فيتنام الصادر في العام 1945، والذي كتبه هوشي منّه ورفاقه، جاء الآتي: "ظلَّ المستعمرون الفرنسيون طيلة أكثر من 80 عاماً يخونون شعاراتهم بالحرية والإخاء والمساواة، ويغتصبون أرضنا، ويقهرون مواطنينا، وكانت أفعالهم تتعارض تعارضاً مباشراً مع المُثل العليا للإنسانية والعدالة. لقد حرمونا على الصعيد السياسي من حرياتنا كافة، وفرضوا علينا قوانين جائرة، وأقاموا 3 أنظمة مختلفة في شمال فيتنام ووسطه وجنوبه، من أجل تدمير وحدتنا القومية والحيلولة دون وحدة شعبنا، وأغرقوا ثوراتنا في أنهار الدم، وفرضوا نيرهم على الرأي العام، ومارسوا سياسة تجهيل ظلامية، وفرضوا علينا أن نتعاطى الأفيون والكحول إضعافاً لنا. أما في المجال الاقتصادي، فقد استثمرونا حتى العظم؛ فأنزلوا شعبنا إلى دركات البؤس المظلم، وخربوا بلادنا بلا رحمة، ونهبوا حقولنا ومناجمنا وغاباتنا وموادنا الأولية. وقد اخترعوا مئات الضرائب غير المبررة، فأوقعوا مواطنينا، ولا سيّما الفلاحين منهم والتجار، في هوّة الفقر المدقع".
ألا يصلح ما جاء في البيان أساساً لمقاربة أحوالنا في المشرق العربي وما فعله ويفعله الاستعمار بنا؟ ألم يسعَ إلى تقسيم سوريا إلى شمال ووسط وجنوب، وكذلك العراق؟ ألا ينهب ثرواتنا؟ ألم يتآمر مع صندوق النقد الدولي ضدنا، فأفقرنا ورمى بنا في هوة فقر سحيقة؟ ألا تبرر هذه الممارسات الإمبريالية قانوناً دولياً يقف في وجهها ويعالج آثارها ووحشيَّتها؟
في الجانب الآخر، ينبغي للشعوب وسائر الدول، مهما كانت هشة، أن لا تراهن على القوى الكبرى لحمايتها، وأن لا تتيح لتلك القوى أن تتخذ منها أدوات لتنفيذ تدخلاتها أو لتسهيلها، فالنظام القانوني الإمبريالي زائل لا محالة؛ فخلال السبعينيات من القرن الماضي، ومنذ العام 1970، وقبل أزمة الخليج بوقت كثير، قامت الولايات المتحدة بتسليح كرد العراق ليكونوا أداة لزعزعة نظام صدام حسين.
وقد جاء في تقرير سريّ أصدره مجلس النواب ووقع في يد الصحافة، أن الساسة الأميركيين كانوا يتمنّون أن لا يحقق الكرد المدعومون منهم النصر في الصراع مع النظام العراقي، وكانوا يأملون بأن يستمرّ في تدمير موارد الدولة وإمكانياتها وقدراتها.
كما جاء في التقرير بالحرف الواحد: "لم نجعل زبائننا يعلمون بهذه السياسة، الأمر الذي ساعدهم على مواصلة القتال". وفي العام 1975، أوقفت الولايات المتحدة معوناتها عنهم بغتةً، وانتهى أمرهم في النتيجة إثر قضاء النظام العراقي عليهم، فضلاً عن أنَّ الولايات المتحدة رفضت منح المتمردين الذين كانت تدعمهم، ممن نجحوا في الهرب، اللجوء السياسي.
ولهذا السبب، على الحركات السياسية العميلة والجماعات الإرهابية وكلّ من يعتقد خاطئاً أن خلاصه لا يتحقَّق إلا من خلال دعم الدول الإمبريالية له، أن يتوقف، ولو لحظة، وأن يمعن النظر في هذا المثال وغيره، فالقوى الإمبريالية لا تتعامل معه إلا كأداة أو مطيّة، فإن فشل في أداء دوره استبدلت غيره به.
مما لا شكَّ فيه بالطبع أنّ المجتمع الدولي بحاجة إلى منظمة دولية كالأمم المتحدة. وبالفعل، إن رسالة هذه المنظمة جليلة، وأهدافها سامية وجوهرية. في المقابل، ليس مطلوباً منّا الانصياع إلى قراراتها عندما تتجاوز تلك الرسالة أو لا تتّفق مع الأهداف المحددة لها، فعلى الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن، أن تحمي الرسالة الموكلة إليها، لا أن تخرقها وتتنكَّر لها.
من جهة أخرى، إنَّ بنية مجلس الأمن وهيكليته وعلاقات القوى الاقتصادية السائدة في المجتمع الدولي تجعل الأمم المتحدة منظّمة غير حيادية، فتتماهى غالباً مع الإمبريالية العالمية، وأحياناً تصبح سلاحاً بيد القوى الإمبريالية العظمى؛ ففي حالات كثيرة، قبل الحرب على سوريا بالطبع، تمكَّنت الولايات المتحدة، من خلال الحيلة والخداع والضغط، من الحصول على قرارات من مجلس الأمن تسمح لها بتبرير تدخلاتها العسكرية أو منع المجلس من إدانة عدوان وجرائم فظيعة اقترفتها هي أو دول تابعة لها؛ فمن الناحية الشكلية المحضة، وفي ظلِّ قانون كولونيالي، ستكون مواقف الولايات المتحدة مبررة قانوناً، ولكن مجلس الأمن، وفي النتيجة طبعاً الأمم المتحدة، يكونان قد تخلَّيا عن رسالتهما، وخانا مقاصدهما، وداسا على مبادئهما. من هنا، تنبع الحاجة إلى قانون دولي لا يقدّس الشكلية الوضعية، ويجعل من العدل أساساً له وجزءاً من هيكليته.
لقد تمادت الدول الغربية الإمبريالية بوقاحتها، وبدت تلك الوقاحة فجَّة جداً أثناء الحرب على سوريا؛ فخلال الحرب العراقية الإيرانية، زوَّد الغرب العراق بأسلحة كيماوية، وها هو يتهم سوريا زوراً وبهتاناً باستخدامها. ألا ينمّ موقف كهذا عن وقاحة ما بعدها وقاحة؟! ثم أليس في دفاع القوى الإمبريالية.
إنَّ الفهم الصحيح للحرب على الأمة العربية وللعدوان علينا، نحن المشرقيين العرب، وعلى سوريا، يؤكد أنَّها كلها، فضلاً عن غيرها، حلقات من حلقات الهيمنة الإمبريالية، ونحن بالفعل بحاجة إلى تطوير منظور شامل للإمبريالية، يكون النموذج القانوني الكولونيالي للقانون الدولي المعاصر جزءاً منه.
وربما يتعيَّن علينا أن ننشئ مرصداً للإمبريالية، مهمته الأساسية نقد مركز الإمبريالية العالمية وممارساته، ومراقبة عدوانه وتحركاته وألاعيبه وكشف خططها الاقتصاديَّة، إضافةً إلى تعرية مواقفه المتشحة بالقانون الدولي وبالغايات الإنسانية، وفضح كل ما يصدر عنه وعن إعلامه من معلومات كاذبة وأخبار مضللة، والعسي كذلك إلى إعادة كتابة التاريخ، بما في ذلك تاريخ القانون الدولي. وإنَّني أدعو المخلصين في أمتنا إلى العمل على إنشاء المرصد المذكور، لأننا بأمسّ الحاجة إليه.
قيل إنَّ الحرب قد تكون فرصة أو هدّية يقدّمها العدوّ لخصومه؛ فالحرب العالمية الأولى كانت حرباً قدمتها النمسا وروسيا للشيوعية العالمية، رغم أن لينين كان يعتقد حتى بداية الحرب أنَّ هذه الهدية لن تُقدم، وها هو تحالف الولايات المتحدة وتوابعها يقدّم من خلال الحرب على سوريا هديةً لنا كمشرقيين عرب، ولكل الداعين إلى التحرر من الإمبريالية والشعوب المقهورة والمتطلّعين إلى نظام قانوني عادل.
وقد تلقَّت سوريا تلك الهدية، فمنعت الولايات المتحدة ووكلاءها من هزيمتها، وشلَّت قدرتها على الاستمرار بتدخلاتها العسكرية المعتادة، وهي بمقارعتها هذا التحالف الدنس والمدنّس تقاتل من أجلنا، نحن المشارقة العرب، أبناء سوريا الكبرى، كما تقاتل من أجل الأحرار والشرفاء أينما كانوا، فهي تقاتل من أجل ميلاد لنا ولهم وللعالم بأجمعه.