هل تتّجه تركيا وأوروبا نحو التّطبيع فعلاً؟

وعلى الرغم من وجود المصالح المشتركة بين الطرفين في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ورغم الشروط التي أعلنها الأوروبيون مؤخراً، فإن هذه العملية تعترضها مجموعة من الأسباب لا يمكن تجاهلها، والتي قد تحول دون تطبيع العلاقات بين تركيا وأوروبا، ودون انضمام تركي

  • تسعى تركيا جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ 5 عقود
    تسعى تركيا جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ 5 عقود

يمثّل الاتحاد الأوروبيّ نموذجاً للتطور والوحدة بالنسبة إلى الشّعب التركي. ولذلك، اعتبر مؤسّسو تركيا الحديثة مسألة الاندماج في المؤسسات الغربية من أهم الأولويات والمبادئ التي تقوم عليها الدولة التركية، وترسخت قناعة لدى النخبة الحاكمة في تركيا بأنَّ أهم مسألة بالنسبة إليها هي أن تحصل على اعتراف بأنها عضو في النادي الغربي، وأن تصبح دولة أوروبيّة. لذلك، تشكل عضوية تركيا في المؤسسات الأوروبية مرادفاً للاعتراف بإضفاء صبغة الحضارة الغربيّة المعاصرة عليها، بما يؤكّد الانتصار النهائي للمبادئ الكمالية*. 

منذ 5 عقود، تسعى تركيا جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يقيناً منها بأن ذلك سوف يؤدي إلى انتقالها نحو الأفضل، من خلال الاستفادة من التطور العلمي والتكنولوجي الموجود في الاتحاد الأوروبي. لذلك، ما زالت تركيا تعمل حتى اليوم على تحسين علاقاتها الاقتصادية والسياسية، بعيداً عن التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية عليها. 

ومنذ ذلك الوقت، تميزت العلاقات الأوروبية - التركية بالشد والجذب في إطار استراتيجي محدد هو تحقيق الاندماج في القارة الأوروبية عن طريق كسب العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، مستجيبة في الوقت نفسه لبعض الشروط التي حددها الاتحاد الأوروبي وفق ما سُمي "معايير كوبنهاغن" في العام 1993، فهل تغيّرت هذه الشّروط مع إعلان الأوروبيين شروطاً جديدة لتطبيع العلاقة مع تركيا؟ وماذا ستجني تركيا من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي؟

لدى تركيا قناعة سائدة بأنَّ مستقبلها يرتبط بأوروبا، وذلك يعود بجذوره إلى بدايات القرن الـ19. هذه المسألة أصبحت من المسلمات التي تؤمن بها النخب الحاكمة في تركيا منذ إعلان تركيا الحديثة في العام 1923، وإقرار المبادئ الكمالية التي ترمي إلى التحديث على أساس النمط الغربي، وهو ما لن يتحقق، بحسب رؤية هذه النخب، إلا من خلال الاندماج التام في العالم المتقدم صناعياً، وخصوصاً أوروبا.

حاول مؤسّسو الجمهورية التركية عن طريق المبادئ العامة للجمهورية والدستور أن يجعلوا تركيا جزءاً من العالم الغربي، فكان من أهم أسباب توجههم إلى أوروبا إضفاء الهوية الأوروبية على المجتمع التركي، وربطه نهائياً بالعالم الغربي، وقطع صلاته القديمة نهائياً، فقد سعت النخب الحاكمة في تركيا منذ تأسيس الجمهورية إلى الاندماج في العالم الغربي عن طريق عملية تغيير جذرية تعيد تركيا بمقتضاها صياغة نفسها على شاكلة النموذج الثقافي والحضاري السائد في غرب أوروبا.

وقد عمد أتاتورك إلى القيام بقمع غير مسبوق للتقاليد العثمانية والإسلامية، في سبيل تحويل المجتمع التركي إلى مجتمع أوروبي وتأكيد الهوية الجديدة الأوروبية، إذ كان يستند في ذلك إلى أنَّ الميراث الدبلوماسي والحربي للإمبراطورية العثمانية ذو توجه أوروبي. لذلك، عانت تركيا أزمة هُوية، الأمر الذي أثر بدوره في فاعلية سياستها الخارجية التي ظلت إلى يومنا هذا تعاني إرباكاً شديداً.

علاوة على ذلك، تشير النخب الحاكمة أيضاً إلى أنَّ تركيا كانت جزءاً من السياسة الأوروبية منذ قرون. وقد اكتسبت هوية أوروبية لا تقبل النقاش، لكن في الوقت نفسه من الصعب القول إنها حسمت خيارها المتعلق بالهوية، كما تصوّر ذلك مؤسّسو الجمهورية، لأن هذه المسألة تعتبر من المسائل المعقدة جداً، فالتغيير الاجتماعي يحتاج إلى حقبة زمنية طويلة. ويرى الكثيرون أنّ غالبية المجتمع التركي لم يتخلَّ عن هويته القديمة بشكل كامل، وما زال العديد من الأتراك يهتمون بها، ويمكن اعتبار أنّ إضفاء ثوب الحضارة الغربية على المجتمع التركي هو من العوامل المهمة التي دفعت تركيا نحو أوروبا، وهي تسعى إلى تعميق الصلات الثقافية بينها وبين شعوب الاتحاد الأوروبي.

وكما هو معروف، إن كثيراً من الفئات الشعبية في تركيا تسعى إلى الارتباط الثقافي الكامل بشعوب أوروبا، نتيجة السعي الدؤوب من قبل البعض إلى ذلك. كما أن تركيا بعضويتها الأوروبية تستطيع أن تنتقل من نظام حقوقي اجتماعي يتضمن العديد من السلوكيات الإسلامية إلى نظام حقوقي أوروبي بالكامل، يتناقض في كثير منه مع نظام السلوكيات الإسلامية الذي ما زال يؤمن به الكثير من شرائح المجتمع التركي.

فضلاً عن ذلك، هناك دوافع سياسية أخرى للسياسة التركية، وهي مهمة أيضاً، كالحصول على الدعم في مجال التعليم والتكنولوجيا، فتركيا تسعى إلى الاستفادة من التطور التقني والتكنولوجي الموجود في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وذلك لأهمية العامل التقني الذي تتمتّع به دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية في إقامة الركائز الفنية والتقنية في بلادهم، فالتحديث يتطلّب قاعدة مادية علمية وتكنولوجية منسجمة مع الخطوات المتسارعة التي يشهدها التطور التقني في مجالات الصناعة والزراعة والتعليم والبناء.

من خلال هذا الأمر، يمكن ملاحظة أن تركيا تسعى في توجّهها نحو الغرب إلى أن تصبح دولة أوروبية، مستفيدة في الوقت نفسه مما سيقدمه المجتمع الغربي لها، من أجل النهوض بواقعها الاقتصادي وتقوية موقفها السياسي العسكري والعلمي.

وعلى الرغم من وجود المصالح المشتركة بين الطرفين في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ورغم الشروط التي أعلنها الأوروبيون مؤخراً، فإن هذه العملية تعترضها مجموعة من الأسباب لا يمكن تجاهلها، والتي قد تحول دون تطبيع العلاقات بين تركيا وأوروبا، ودون انضمام تركيا إلى هذا الاتحاد، أو على الأقل تأخّر الانضمام سنوات أخرى.

ومن هذه الأسباب ما هو قانوني، كاستكمال تركيا شروط الدولة الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومنها ما هو سياسي، كمعارضة بعض الدول الفاعلية في الاتحاد الأوروبي لذلك، كفرنسا وألمانيا. وتعتبر القضيّة القبرصيّة من القضايا المهمة التي تؤثر بشكل كبير في مستقبل انضمامها إلى الاتحاد، كما أن عدد السكان الكبير في تركيا يعد من أهم العقبات أمام دخولها إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك تراجع مستوى الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية فيها، والإدانة العالمية التي لاحقتها بسبب تدخلها العسكري في شمال سوريا. جميعها عوامل أثرت وستؤثر في "تطبيع" العلاقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي أو بين أنقرة والدول الأعضاء داخل الاتحاد.

 
* المبادئ الكمالية هي الجمهورية والقومية والشعبية والعلمانية والإصلاحية.