إيران في عيون أوروبا... عدو أم صديق؟
إذا كانت الدوافع الاقتصادية ولا سيما الدافع النفطي والأسواق، عاملاً مهماً في توجّه أوروبا نحو إيران، فإن هنالك عاملين آخرين يمثّلان المرتكز الجيوستراتيجي لإيران بالنسبة لأوروبا.
لعلّ تحديد نمط العلاقة الأوروبية الإيرانية اليوم يُعدّ من أهم الإشكاليات التي يواجهها صانع السياسة الخارجية في إيران، إذ تعاني البلاد من حساسيةٍ شديدةٍ تجاه الغرب، ناشئةٍ عن التجربة التاريخية السيئة للنفوذ الغربي، والتي عاشتها إيران على مرّ تاريخها، حيث قام الغرب باستغلال مواردها وانتهاك ثقافتها، وتخطّي حدود استقلاليتها وسيادتها الوطنية.
لذلك، فإنّ صانع القرار الإيراني، لم ينظر إلى الغرب على أنه كيانٌ موحد، بل استغل التباين في المصالح بين القوى الغربية وخاصةً الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وأوروبا واليابان من جهةٍ أخرى. بعبارة أخرى، لم تضع إيران الغرب كله في سلّةٍ واحدة، بل كانت دوماً الدول الأوروبية واليابان مكاناً للحوار واستمرار العلاقات، وعودتها بعد حدوث أي خلافٍ، على عكس الوضع مع الولايات المتحدة الأميركية.
وفي المقلب الآخر، تبلورت مصالحٌ أوروبية – خاصة إيطالية وفرنسية وألمانية – بعيداً عن النفوذ الأميركي، وبدت ممهّدةً لقيام تقاربٍ إيراني أوروبي، سرعان ما التقطتها إيران لتطوير علاقاتها بأوروبا، مستفيدةً من تضارب المصالح الأوروبية الأميركية، خاصةً على المستوى الاقتصادي. يبدو الاتحاد الأوروبي على وفاقٍ سياسيٍّ مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنه في الوقت ذاته، هو منافسٌ اقتصاديٌّ لها، الأمر الذي يزيد من أهمية إيران بالنسبة لأوروبا، ولعلّ في المثالين التاليين ما يدّل على ذلك:
- في العام 1995، ونظراً للحظر الاقتصادي الأميركي على إيران، أُجبرت شركة "كونوكو" الأميركية على إلغاء كافة اتفاقياتها الموقَّعة مع إيران. وعلى الفور، أبرمت شركة (توتال) الفرنسية مع إيران اتفاقيةً تتعلق بآبار البترول والغاز الإيرانية بقيمةٍ إجمالية تُقدّر ب 600 مليون دولار.
- عندما لم يحقّق الحظر الأميركي نتائجه المرجوّة، سنّت الولايات المتحدة الأميركية في العام نفسه قانوناً آخر، عُرف باسم "قانون داماتو" حظّرت بموجبه على الشركات الأوروبية الاستثمار في مجاليْ الغاز والنفط الإيراني لأكثر من 40 مليون دولار، الأمر الذي لاقى انتقاداتٍ واسعةً من الجانب الأوروبي، حتى وصل الأمر حدّ إصدار إيرلندا، رئيسة الاتحاد الأوروبي آنذاك، بياناً جاء فيه أنّ قانون الحظر الأميركي المفروض على الشركات الأوروبية، يدفعنا إلى تقديم الدفاع عن مصالح أعضاء هذا الاتحاد ضد أميركا في المحافل الدولية مثل منظمة التجارة العالمية.
وهكذا، استغلت إيران التنافس الأميركي الأوروبي، واستفادت من تضارب المصالح بينهما، عبر السعي للانفتاح على الاتحاد الأوروبي، وتعزيز ارتباطاتها به، وذلك لملء الفراغ الناتج عن سياسة الاحتواء التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية لعزل إيران. في المقابل أيضاً، سعى الاتحاد الأوروبي إلى تحقيق نوعٍ من التوازن في منطقة الخليج واستعادة نفوذه الشرق أوسطي القديم. ومن هنا، فإنّ قيام علاقاتٍ مميزة مع إيران يُعدّ مفتاحاً جيداً لتحقيق هذا الهدف.
تمتلك إيران ثاني أكبر اقتصادٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد السعودية، إذ لديها رابع أكبر احتياطي عالمي من النفط الخام المقدّر بــ 160 مليار برميل، وثاني احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي بــ 34 ترليون متر مكعب، حسب تقديرات عام 2017.
كما تُعدّ إيران من الشركاء الرئيسيين للاتحاد الأوروبي ومن أهم أسواقه الخارجية. ولعل الصعوبات التي واجهتها الشركات الأوروبية نتيجة العقوبات التي فُرضت على إيران، فسحت المجال لبناء علاقة ناجحة على المدى البعيد، مستفيدةً من سياسة الحوار النقدي التي حكمت العلاقات بين الطرفين طيلة سنوات العقوبات. وقد تمّ دعمها من خلال استراتيجية الاتحاد الأوروبي عام 1992، التي تضمّنت تجنّب القطيعة التامة مع دولةٍ كبيرةٍ ومهمةٍ اقتصادياً واستراتيجياً. إنّ الاحتياطيات النفطية والغازية الضخمة التي تمتلكها إيران، كان لها أثراً كبيراً في تقاطع مصالح الاتحاد الأوروبي الاقتصادية معها، وفي تطوير العلاقة بينهما.
وإذا كانت الدوافع الاقتصادية ولا سيما الدافع النفطي والأسواق، عاملاً مهماً في توجّه أوروبا نحو إيران، فإن هنالك عاملين آخرين يمثّلان المرتكز الجيوستراتيجي لإيران بالنسبة لأوروبا.
العامل الأول: هو أن أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي، بدأت تسعى نحو التأسيس والترويج لنظامٍ دوليٍّ متعدد الأقطاب، تكون هي أحد عناصره الأساسية. وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، بالقول: "إنّه من غير المعقول أو المقبول أن يظنّ البعض أنّ الإرادة والقرار سيكونان دائماً من نصيب أميركا، وأنّه على أوروبا فقط أن تدفع فاتورة الحساب"، ولذلك فهي (أي أوروبا) تحاول من خلال علاقتها بإيران، ذات القدرة الاقتصادية الكبيرة، أن تخلق مجالاً اقتصادياً، يمثّل مظهراً من مظاهر التعددية القطبية، ووسيلةً لمناهضة النفوذ الأميركي. من هنا، تبرز أهمية إيران الجيوسياسية بالنسبة لأوروبا.
العامل الثاني: فهو سعي إيران لأن تصبح مركزاً لتكتلاتٍ اقتصاديةٍ عديدة تستطيع من خلالها إبراز مكانتها في المنطقة المحيطة بها، ولذلك بدأت تطرح مشروعاتٍ اقتصاديةً أو تحيي القديمة منها، تحاول من خلالها مدّ أذرعها الاقتصادية إلى داخل القارة الآسيوية، ومدّ جسور التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي. ففي عام 1996 مثلاً، أُعيد إحياء العمل بما يُعرف بـ"طريق الحرير" الذي يصل الصين بأوروبا والشرق الأوسط من جهة، والخليج العربي بالمحيط الهندي عبر إيران من جهةٍ أخرى.
ومن ثمّ طرحت إيران مشروعاً لتشكيل تكتلٍ للتعاون الاقتصادي والتجاري بين دول طريق الحرير، فضلاً عن تكتل منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) التي تم إحياؤها. وعليه، فإنّ تزايد النشاطات والتحركات الاقتصادية الإيرانية زاد من أهميتها بالنسبة لأوروبا. وهو ما تُرجم لاحقاً بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015 الذي رفع حجم المبادلات التجارية بين الطرفين إلى ما يقارب 17 مليار دولار أميركي، في مؤشّرٍ واضحٍ على توطيد التعاون بين إيران والاتحاد الأوروبي، لاسيما في ضوء حاجة إيران إلى الاستثمارات الأجنبية ومعدّات صناعة النفط، والمنتجات الصناعية الأخرى التي غابت عن أسواقها لسنوات، نتيجة العقوبات التي فُرضت عليها.
في المحصلة، ليس ثمة شك في أن الأهمية الاقتصادية لإيران، وخاصةً المكانة النفطية والغازية التي تحتلها سواءٌ في الانتاج أو التصدير، هي من أعطاها كل هذه الأهمية الإقليمية والدولية، لذا فإن الحاجة الاقتصادية والمنافع المتبادلة بين الطرفين كانت ولا تزال وستبقى الدافع والمحرك القوي للعلاقة بين إيران والاتحاد الأوروبي. بناءً على ذلك، يصحّ تصوّر الكثير من الاقتصاديين الذين يرون بأن الاقتصاد بين الطرفين هو الذي يحرّك السياسة لا العكس، على الرغم من التصريحات والتهديدات التي تُطلَق بين الفينة والأخرى.
مراجع ذات صلة:
" العلاقات الإيرانية – الأوروبية "، صحيفة جام جم الإيرانية، 26/12/2000. www.albainah.net/Index.aspx?function=Item&id=1880&lang
عبد الأنيس محمد، سهيلة، " العلاقات الإيرانية – الأوروبية – الإبعاد وملفات الخلاف "، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، دراسات إستراتيجية، عدد 126، ط1، 2007)
أبو رقيبة، عبد الله،" العلاقات الخليجية – الأوروبية 1988 – 2003 "، الكويت، منشورات ذات السلاسل، ط1، 2006.
" إيران تكتشف احتياطيات من النفط الصخري يليه الغاز الصخري " موقع روسيا اليوم الإخباري،2/2/2017 https://arabic.rt.com/business/864470-