آفاق المواجهة المتصاعدة بعد عام على استشهاد سليماني والمهندس
سيترتّب على نهاية هذه الحقبة المزيد من التحديات في المنطقة والإقليم والعالم، وسيكون الجميع أمام أولوياتٍ متشابكة ومعقّدة ولايمكن تصويبها سوى بالمزيد من العمل بين الدول والشعوب المعنية.
لا شك أنّ اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس كان خسارةً كبيرة وفاجعةً مؤلمة لكلّ من يعرف الدور المحوري الذي تميّز به الرجلين في بناء قوى المقاومة ومواجهة المشروع الأميركي الغربي الصهيوني، للسيطرة على المنطقة وإخضاع شعوبها لسياسة الهيمنة والابتزاز والتسلط المتوحش. علماً أن هذا النّهج ما زالت حلقاته تتواصل لفرض حالة من الأمر الواقع بقوة البطش والعدوان.
التاريخ سيحفظ للشهيد سليماني الدور الرئيسي الذي أبدع في ترجمته على الأرض وفي العديد من الساحات. برز وجوده على خارطة الاشتباك المباشر في تأسيس التشكيلات العسكرية المقاتلة، وبناء فيلق القدس وفصائل المقاومة التي خاضت في العقد الأخير أوسع المعارك وأكبرها لإفشال المخطط الأميركي، والانتصار على النسخ التي أنتجتها الأجهزة الاستخباراتية في ميادين القتال. لقد عمدت الولايات المتحدة إلى إنشاء عشرات الجماعات الإرهابية التكفيرية واستوردت المرتزقة من كل بقاع الأرض بغية تحطيم البنى الأساسية لدول المنطقة ومجتمعاتها.
في الميدان، وبذهنية القائد الكبير، أرسى الحاج قاسم سليماني القواعد المنهجية والعملية لبناء منظومة المقاومة وفتح كامل آفاق التطوّر والتنامي أمامها. ومن ثمّ واكب معها حصاد الإنجازات ومراكمة الانتصارات الفعلية التي أبعدت عن المنطقة والاقليم ويلات الخضوع والارتهان للإرادة الاستعمارية وملحقاتها الظلامية.
وإذا كان للأفراد في صناعة التاريخ علامةٌ بارزة ومؤثرة، ترتقي إلى المستوى الأساسي والحاسم في تحديد مسار الأحداث والتطورات الكبرى، فإنّ قيمة قاسم سليماني ومكانته قد انصهرت في بناء البنية العقائدية والإيمان المشترك لدى المقاومين. لقد رسّخ هذا القائد العظيم فلسفةً متكاملة تجسّدت من خلالها القيم والمبادئ والمثل العليا لمسار المقاومة، وغدت أكاديمية السليماني القتالية حاضرةً، يستلهم من هديها جيل كامل من عشاق الحق، على غرار من ساهموا مع الحاج عماد مغنيّة والقنطار وغيرهم في تطوير صناعة الانتصار وصياغة توازن الردع وتشييد عصرٍ جديدٍ يستحق بجدارة أن يكون عصرهؤلاء القادة الكبار.
بين سليماني وفلسطين
من قائد قوة القدس إلى شهيد القدس رحلةٌ عامرةٌ بمحطات الانتصار في لبنان الجنوب وغزة والموصل وحلب والبوكمال؛ أوديةٌ وجبالٌ ورمالٌ صحراوية، كانت جميعاً تتّجه بوصلتها نحو فلسطين والقدس.
وكانت فلسطين الخيار والقرار في كل حركةٍ ترجّل فيها بحثاً عن انتصارٍ جديد وعن مراكمة المزيد من عوامل القوة.
إنّ قادة فصائل المقاومة يعرفون التفاصيل الدقيقة أكثر من غيرهم وله في أعناقهم، في الذكرى الأولى لرحيله، أمانةً كبيرة تقضي أوّلها بمواصلة الطريق الذي رسم بدايته، فساروا معه في أصعب الظروف والتحديات. أما الثانية، فهي تسجيل التاريخ والأجيال، شهادةً فلسطينية صادقة وجريئة لهذا الخيارالذي جمع بين القدس وصنعاء وبغداد ودمشق وبيروت بإرادةٍ واحدة موحدة، عنوانها فلسطين والقدس والأقصى، بفضل جدارة هذا القائد.
مابعد العام الأوّل على رحيل القادة
إنّ التخبط والهستيريا التي اتسمت بها السياسات الأميركية في عهد الإدارة الآفله ورئيسها المهزوم دونالد ترامب، وضعت المنطقة والعالم أمام حالةٍ من الترقّب والحذر الشديدين. إنّ التعامل مع أية خطواتٍ استباقية قد تضاعف من حدة التوترات التي تشهدها الكثير من المناطق في العالم جراء العلاقة مع هذه الإدارة الجشعة. تواصل إدارة ترامب سعيها لاستغلال ما تبقّى من الوقت في البيت الأبيض لخلط الأوراق وتوظيفها في خدمة الأجندات والحسابات الخاصة به وبشركائه المحليين والخارجيين.
وحيث يستعجل البعض في المنطقة إنجاز خطوات التطبيع والتنسيق، لتكوين التحالف المشترك بزعامة الكيان الإسرائيلي، تواصل هذه الإدارة محاولاتها في الالتفاف على إرادة الشعب العراقي والقرار التاريخي للبرلمان المطالب برحيل القوات الأميركية. وتحاول إدارة ترامب مجدداً، من خلال ما تبقّى لها من جماعاتٍ إرهابيةٍ تكفيرية، ضرب الأوضاع الداخلية وتفجير الصراعات الدامية، لإيجاد الذرائع من أجل تمديد فترة وجود هذه القوات واستخدامها في الصراع المفتوح مع محور المقاومة. وبذلك، تكون قد نجحت في الحيلولة دون الوصول إلى الهدف السياسي الذي أعلنه الشعب العراقي وحلفاؤه في أعقاب جريمة الاغتيال الجبانة التي استهدفت المهندس والحاج قاسم سليماني.
خلال الفترة المتبقية من حكم ترامب، سيجري استثمار هذه المرحلة بأقصى الإمكانيات من أطرافٍ عديدة، يأتي في مقدّمها الكيان الإسرائيلي وشركاؤه في بعض الحكومات العربية ودوائر الاستخبارات الإقليمية والغربية واللوبي الصهيوني العالمي وملحقاته الدينية والعنصرية اليمينية، وسط نيرانٍ ملتهبة، تتطاير في أكثر من اتجاه.
سيترتّب على نهاية هذه الحقبة المزيد من التحديات في المنطقة والإقليم والعالم، وسيكون الجميع أمام أولوياتٍ متشابكة ومعقّدة ولايمكن تصويبها سوى بالمزيد من العمل بين الدول والشعوب المعنية. يكمن الهدف الأساس في ترسيخ عالمٍ متعدد الأقطاب وتصحيح مسار العلاقات والمصالح بين مكوّنات المجتمع الدولي، على قاعدة احترام الحقوق والتوازن في تبادل المكاسب، والالتزام بمنظومة الشرعية الدولية والقوانين التي قرّرتها هيئات ومنظمات المجتمع الدولي.
يُعتبر الكيان الإسرائيلي المشارك الرئيسي والمحرّك لعمليات اغتيال القادة والعلماء، والذي كان آخرهم الشهداء سليماني والمهندس ومحسن زاده. يسعى العدو الإسرائيلي إلى استثمار وتوظيف كل ما يجري في المنطقة وعلى تخومها، لتكريس واقع الاحتلال للأراضي الفلسطينية والعربية وتوسيع الهيمنة والسيطرة والنفوذ.
لقد فات "إسرائيل" ما تمتلكه المقاومة بكل مكوّناتها من مخزونٍ وقدراتٍ وآفاقٍ للرد على جرائمه كما فعلت مع رحعبام زيئفي، والحاخام المتطرف ميئير كهانا، وغيرهم قبل سنوات. نسي العدو أنّ المقاومة قادرةٌ على تحقيق التوازن والنجاحات في المعارك الأمنيه والاستخبارية والإلكترونية بكل الأشكال والوسائل.
غفل الكيان الغاصب عن قدرة المقاومة على إسقاط الأوهام التي تُباع اليوم في سوق الغرف الأمنية المشتركة التي تموّلها وتحاول الاستقواء بها بعض الأنظمة العربية الضعيفة، والتي تعرف حقيقة وزنها في حسابات القوى الفعلية القائمة بين أطراف الصراع.
إنّ الشعب الفلسطيني الذي قدّم معظم قياداته التاريخية شهداء جراء عمليات الاغتيال والغدر من الكمالين والنجار وكنفاني وأبو جهاد وأبو إياد وأبوعلي مصطفى والرنتيسي وياسين والشقاقي ونزّال والعيّاش والعبيات والجعبري والغندور وأبو حلاوه وكل قائمة المجد التي تزيِّن في سمائها الشهيد القائد ياسرعرفات.
إنّ هذه الأسماء قد أرعبت الاحتلال وزعزت مشروعه التصفوي، فهو يدرك ومعه الشعوب الحيّة في العالم أن المقاومة التي حقّقت توازن الردع، وأسقطت أسطورة الوهم عن هذا الكيان، قادرةٌ على قطع اليد الإسرائيلية التي توغّلت في سياسة الاغتيال الإجرامية. إنّ منعطف استشهاد القادة الكبار سيكون بداية النهاية لخرافة التفوّق الإسرائيلي. ستسقط "إسرائيل" وسيسقط معها الاحتلال وكل من يقف في مواجهة إرادة الشعوب وحقّها في الحرية والسيادة والاستقلال.