الصّمود وقت الحرب.. كيف ينجو الاقتصاد السوري من العقوبات؟
لعلّ أبرز ما يتميّز به التطوّر المتسارع للعلاقات الدوليّة في القرن 21، هو لجوء الدول الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى الإفراط في استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلةٍ من وسائل الحرب.
تُعدّ ظاهرة العقوبات الاقتصادية ظاهرةً قديمةً نسبيّاً يُشير إليها التاريخ في العهود القديمة أي منذ عام 432 قبل الميلاد عندما قامت أثينا بفرض عقوباتٍ ضد ميغارا*، قامت على حظر التجارة بينهما؛ إلاّ أن هذه الظاهرة قد شهدت خلال السنوات الماضية من عصرنا، تطوّراً كبيراً سواء فيما يتعلق بكثافةٍ واتّساع نطاق تلك العقوبات أو تعدّد أشكالها ومستوياتها.
ولعلّ أبرز ما يتميّز به التطوّر المتسارع للعلاقات الدوليّة في القرن 21، هو لجوء الدول الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى الإفراط في استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلةٍ من وسائل الحرب الاقتصادية، وكإحدى أدوات السياسة الاقتصاديّة الدوليّة غير العسكريّة الرّامية إلى تحقيق مجموعة أهدافٍ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة معيّنة أبرزها: تغيير سياسات البلد المستهدَف وجعل الحكومات المستهدَفة غير مستقرّة، بالإضافة إلى إضعاف القدرة العسكريّة للبلد المستهدَف.
العقوبات ضد سوريا ليست جديدة
تُعدّ سوريا مثالاً واضحاً للعقوبات الدوليّة التي بدأت تُفرض عليها منذ ثمانينيّات القرن العشرين، حيث بدأت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، بتطبيق المقاطعة الاقتصادية في محاولةٍ لعزل دمشق عن محيطها الإقليمي والدّولي. ومع الزمن، تتالت العقوبات التجاريّة والماليّة، وتدرّجت حتى باتت اليوم تطال العديد من قطاعات الاقتصاد السوري.
بدأت أوّل موجةٍ "للعقوبات" ضد سوريا منذ 1979 حين تمّ تصنيفها "دولةً داعمة للإرهاب"، تبعتها في العام 2004 بُعَيْد الغزو الأميركي للعراق عقوباتٌ اندرجت تحت مُسمّى "قانون محاسبة سوريا وإعادة السيادة اللّبنانية"، حيث تضمّنت تجميد الأصول السوريّة الحكوميّة في الولايات المتحدة، كما مُنِعَت البلاد من استيراد الكثير من التجهيزات ذات المكوَّن الأميركي من محطّات توليد الطاقة إلى الحواسيب، وهكذا وصولاً إلى عام 2011 بداية الحرب على سوريا، إذ تمّ فرض حزمة جديدة من العقوبات الأميركية والأوروبية شملت المؤسّسات المصرفيّة الرسميّة والصّادرات الأساسيّة ومستورداتٍ مختلفة، وليس آخرها "قانون قيصر" الذي فرض مجموعةً من الإجراءات بدأت بمنع بيع أو تزويد السوق السوريّة بالسّلع والخدمات والتكنولوجيا ومعلوماتٍ هامة وكلّ ما من شأنه أن يُسهم في زيادة الإنتاج المحلي السّوري من الغاز الطبيعي، أو المنتجات البتروكيميائيّة أو النّفط أو المنتجات النفطيّة ذات المنشأ السّوري، إضافةً إلى قطاعات النّقل والاتصالات السلكيّة واللاسلكيّة.
على صعيد آخر، استهدف القانون دولاً أخرى لاسيما روسيا والصّين وإيران والشركات والأفراد الذين يتعاملون إقتصاديّاّ وتجاريّاً مع سوريا. تعرّضت هذه الدول إلى التهديد بالعقوبات وتجميد أصولها الماليّة إذا لم تقطع علاقتها الاقتصادية بسوريا.
أمّا سياسياً، فالقانون استهدف دفع الحكومة السوريّة إلى التّفاوض مع واشنطن تحت الضّغط لانتزاع تنازلاتٍ سياسيّةٍ منها، حيث سمح الرئيس الأميركي برفع الحصار في حال "لمس جديّةً" في التّفاوض من قِبل الحكومة السوريّة، بشرط وقف الدعم العسكري الروسي والإيراني لها.
" قيصر" يزيد من معاناة السوريين.. لكن!!
تُثير الأخبار اليومية الواردة عن أحوال المواطن السّوري مواقفَ متقاربةً في الرؤى والأفكار بين الاقتصاديّين والمتابعين لشؤون الاقتصاد السوري. تشير الأخبار، في الوقت ذاته، إلى أوضاعٍ معيشيّةٍ صعبةٍ بات يعيشها هذا المواطن، هي انعكاسٌ لمفرزات الضّغوط والعقوبات الخارجيّة المفروضة على سوريا تحت مسمّياتٍ مختلفة، نعتقد بأنّ الجميع بات على درايةٍ بها.
لا شكّ أنّ "قانون قيصر" وضع السوريّين كافةً ولا يزال، أمام أوضاعٍ قاسية خصوصاً وأنه يتزامن مع ظروفٍ معيشيّةٍ صعبة تعيشها الدولة في سوريا، سيّما وأنّه يعرقل الإجراءات التي تقوم بها الدولة لإعادة الحياة إلى المناطق التي دمّرتها الحرب من خلال إعادة إعمارها وتأهيلها، وسيّما أنّه يحمّل المواطن مُثقلاً مشقّة تأمين ما يحتاجه من حاجاتٍ ضروريّةٍ بعد رفع أسعارها. وإذا كنّا نقدّر جهراً اليومَ ما ينادي به أغلب السوريين والمتمثّل بــ ضبط الأسعار ومراقبة الأسواق، فالمطلوب أيضاً طمأنة المواطن السّوري بأنّ متطلّبات صموده الأساسيّة موجودةٌ ولن يطرأ عليها أيّ تغييرٍ سواء من حيث توفّرها في الأسواق أو من حيث استقرار أسعارها.
وإذا كانت مجمل هذه العقوبات ستحرم دمشق من الحصول على ماتحتاجه من سلعٍ أو خدماتٍ أو تكنولوجيا ضروريةٍّ أو قطع غيارٍ وغيرها من المستلزمات، إلاّ أنّ سوريا ستنجح – كما تدلّ التجربة ويقول التاريخ – في إفشال هذه العقوبات وإفراغها من مضمونها، من خلال الاعتماد على الذّات، إذ أنّه خلال السّنوات الماضية، لم تنفذ أيٌّ من السّلع الضروريّة من أسواق دمشق، رغم أنّ الإجراءات الأحاديّة الجانب والحصار الذي فرضه الغرب على سوريا، منذ ثمانينيات القرن العشرين، قد خلق حالةً من العزلة القسريّة لسوريا، سواء على مستوى التجارة العالميّة أو الداخليّة، إلاّ أنّ ذلك لم يُثنِ سوريا عن تنمية خبراتها المحليّة والنهوض بها، فجعلت الاقتصاد السّوري مرناً محميّاً من الصّدمات الداخليّة والضّغوط الخارجيّة من خلال سلسلةٍ من الاجراءات وأبرزها: دعم عمليّات الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي وترشيد الدّعم الحكومي من جهة، والاستمرار بمحاربة الفساد من جهةٍ أخرى.
أضِف إلى ذلك أنّ سوريا، في سياق نهجها الاقتصادي المستقلّ، وجّهت منذ زمن علاقاتها الاقتصاديّة نحو الشرق، من خلال تعزيز علاقاتها بإيران وروسيا والصين، وهي دولٌ تقاوم الحرب الاقتصاديّة الأميركيّة وتعمل على إسقاط أهدافها وبناء منظومةٍ جديدةٍ من العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة الدّولية تقوم على التحرّر من هيمنة الدولار والنّظام المالي الذي تهيمن عليه أميركا منذ انتهاء الحرب العالميّة الثَّانية.
* مدينة يونانية ومركز لبلدية تقع في جنوب وسط البلاد وهي تقع ضمن مقاطعة آتيكا الغربية التي تتبع إدارياً لإقليم آتيكا الإداري.