إقراض المال للعائلة أو الأصدقاء.. ما السّوء الذي قد يحدث؟
نحن العرب مخلوقات عاطفية، وذلك هو رونق ثقافتنا التي من صلبها ينبع تمسّكنا بمفاهيم مثل التكافل والتضامن، وذلك يزيدنا فخراً، لكن رغم ذلك، يجب المحافظة على توازنات معينة حين يتعلق الأمر بالمال والديْن.
لعلّ من أجمل العادات في الثقافة العربية وأكثرها نبلاً هي تلك التي يقوم فيها أحدهم، من دون الكشف عن هُويته، بدفع جميع الديون المسجّلة لدى متجر البقالة المحلي. كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سمعت والدي بالصّدفة يقول عن والده، جدي المتوفى، إنّه كان يرسله في العديد من المناسبات للقيام بهذه المهمّة بسريّة تامّة. وعندما سألته عن ذلك، قال: "كان جدّك يعلم أنّ هناك شيئاً واحداً أمرّ من طلب المال من رجلٍ ما، وهو النظر إلى عيني ذلك الرجل في اليوم التالي".
حملت تلك الكلمات في داخلي منذ ذلك الحين. والآن، وأنا أرى الدّيْن يصبح أداةً شائعة في عملياتنا المالية الشخصية، أستذكر حكمة ذلك الرجل بامتنان. كان ذلك المزارع، رغم بساطته وعدم حيازته الشهادات التعليمية، يعلم كيف يستطيع الدّيْن التلاعب بديناميكيات العلاقات والسّلوك الجماعي الإنساني. وبذلك لا يعود المدينون، أولئك الناس المدوّنة أسماؤهم في دفترٍ مخبّأ في درجٍ ما، مجرّد أطراف في عملية مالية صرفة، بل يصبحون ضحايا علاقة سامّة تجمعهم مع الرجل الذي من المفترض أنّه يسدي إليهم معروفاً، أي الدائن.
وبحسب دراسة حديثة أجراها موقع "bankrate.com" الإلكتروني، "أشار نصف الراشدين (46%) الذين أقرضوا مالاً لصديق أو فرد من العائلة إلى حدوث آثارٍ سلبية إثر ذلك. 37% أبلغوا بأنهم خسروا المال، و21% تضرّرت علاقتهم بالطرف المقترض". إنها واحدة من نتائج أخرى أفضت كلها إلى أنّ إقراض المال لأحدٍ من دائرة علاقاتنا الضيّقة خطوة لا تخلو من المجازفة، وأنّ ذلك لا يعرّضنا لاحتمال خسارة المال فحسب، بل لخسارة العلاقة نفسها أيضاً.
يعزو علم النفس السلوكي ذلك إلى "عقدة الدونية" التي تنشأ غالباً حين يكتسب طرف من طرفين متساويين سطوةً على الآخر. بتعبيرٍ آخر، من الطبيعي أن يُجرح كبرياؤنا حين نتخلّى عن جزءٍ ثمينٍ من سيادتنا لصالح أحد معارفنا المقرّبين؛ شخص لا يسمح لنا حضوره الدائم في حياتنا بنسيان أنّنا، في يومٍ ما، كنّا أقوياء بما فيه الكفاية كي لا نحتاج إلى أحد، ولكننا لم نعد كذلك.
من المؤذي لأي رجل أو امرأة مواجهة حقيقة كتلك: "لقد فشلت. أنا إنسان راشد لم يستطع تدبّر أموره، ولذلك احتجت إلى مساعدة الآخرين المشفِقين". هكذا، يولد كره الذات في داخلك، وسرعان ما تتعاظم هذه الكراهية فتنسحب على الآخرين. هذا هو أكثر ما تجيد الكراهية فعله.
إنّ تأثير مواقف كهذه يختلف من مجتمع إلى آخر، بحسب الحدود التي تضعها كل مجموعة اجتماعية بين الشؤون الشخصية من جهة، والشؤون المالية من جهة أخرى. أما في العالم العربي؛ العالم الذي نأتي منه نحن وأجدادنا، فإن هذه الحدود تصبح متداخلة باستمرار. عندما نقرض المال أو نقترضه، نفشل في استحضار الجوانب العملية والبراغماتية لهذا التعامل المالي. وللأسف، نتجاهل بذلك ما يمكن أن يكون الضمانة الوحيدة لسلامة العلاقة في حال حدوث خطأ ما.
عندما يطلب أحد الأصدقاء المال، يدخل العامل الثقافي على الخطّ أيضاً، ذلك أننا تربّينا على تمجيد خصائص مثل الكرم والسخاء غير المشروطين. وهكذا، يحصل صديقنا على المال من دون إعلامنا بالخطة التي وضعها من أجل السّداد، حتى إننا نطلق على ذلك تسمية النية الطيبة بين رفاق العمر، بينما هو في الحقيقة انصياع أعمى لثوابت اجتماعية مهيمنة. وفي حالات أخرى، هو مجرد محاولة لإثبات شيءٍ ما، والأخير يذكرني بحفلات ومناسبات العلاقات العامة الباذخة التي ينفق فيها "القائمون بالأعمال الخيرية" المفترضون مالاً على التغطية الإعلامية أكثر من إنفاقهم على عمل الخير نفسه.
هناك طريقة تفكير محددة يقترحها دايف رامسي، مؤلف كتاب "التحول المالي التام"، كطريقة للبقاء في الجهة الآمنة عند التعامل بهذه الأمور، إذ يقول: "الإدارة المالية الشخصية هي شخصية، هي ذات طابع يرتبط بالعلاقات الإنسانية، وليست علم رياضيات خالصاً. عندما تصدر قراراً مالياً مستنداً فقط إلى العلاقات، وتتجاهل الرياضيات كلياً، يكون قرارك خاطئاً. وعندما تصدر قراراً مالياً مستنداً فقط إلى الرياضيات، وتتجاهل التبعات التي قد تنشأ في علاقاتك بسبب خطواتك الغبية، تكون بذلك على مشارف اكتشاف ما قد يسبّبه الغباء".
هذا هو تحديداً ما تحتاج إلى أن تبقيه في الحسبان عندما تنوي إقراض شخصٍ تعرفه المال: "إذا أردت أن تساعد أبناءك البالغين مالياً، ولديك المال، أعطهم إياه. لا أمانع ذلك ما دام يتمّ بطريقة صحية، لكن لا تقرض المال للناس الذين تحبهم، لأنك بذلك تغير طبيعة علاقتك بهم إلى علاقة العبد بالمالك".
نحن العرب مخلوقات عاطفية، وذلك هو رونق ثقافتنا. ومن صلب هذه الثقافة، ينبع تمسّكنا بمفاهيم مثل التكافل والتضامن، وذلك يزيدنا فخراً. لكن رغم ذلك، يجب المحافظة على توازنات معينة حين يتعلق الأمر بالمال والديْن، وإلا سترتد علينا فطرتنا مسببة أذى أكثر من الخير.
ملاحظة: رجاءً، لا تسمح لفكرة انتابتك فجأة بأن تقنعك باستعمال ما قرأته للتو كحيلة لإبعاد بعض الناس. لن ينجح الأمر كما تتصوّر.