إنهاء الانقسام الفلسطيني: الدوافع والمآلات
إن الاتفاق على تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية هي مجرد خطوة أولية بحاجة إلى ترجمة فعلية ميدانية ومن دون تردد، والشراكة الوطنية تتجلى من خلال إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني كاملاً.
قبل الخوض في الدوافع التي دعت طرفي الانقسام الفلسطيني، حركتي فتح وحماس، للتحرك على نحو عاجل لعقد جولات من اللقاءات والحوارات قُبيل اجتماع الأمناء العاميين للفصائل الفلسطينية بين رام الله وبيروت وبُعَيدَهُ، لا بد من التعريج على الدور الذي لعبته "إسرائيل" في التمهيد للأرضية المناسبة لزرع بذور الانقسام الفلسطيني.
فمنذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وتحويل الثائر إلى مجرد موظف، و"إسرائيل" لا ترى أي وجود للدولة الفلسطينية إلا في قطاع غزة. وعلى مدار عقود، عملت بشكل ممنهج على فصل القطاع عن الضفة الغربية، وتجلى ذلك من خلال إفشال كل جهود الزعيم الراحل ياسر عرفات لإقامة الممر الآمن بين غزة والضفة ( 44 كيلومتراً)، والذي لم يرَ النور إلا بعد ست سنوات من اتفاق أوسلو. ففي عام 1999، تم تشغيل الممر الآمن الذي يخضع للسيادة "الإسرائيلية" الكاملة. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، أغلقت "إسرائيل" هذا الممر الذي كان من المفترض أن يشكّل وحدة جغرافية وسكانية للفلسطينيين.
وضمن سياسة الفوضى الخلاقة الأميركية، لجأت حليفتها "إسرائيل" إلى تنفيذ انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، ومن ثم ضغطت الولايات المتحدة الأميركية- بكل ثقلها- لإجراء انتخابات فلسطينية عام 2006، وفازت حركة حماس بالأغلبية؛ وفضح الإعلام الغربي- بالوثائق السرية- خطة اعتمدها حينها الرئيس الأميركي بوش الابن للتحريض على حرب أهلية فلسطينية. وهذا بالفعل ما كان، حيث سيطرت حماس بقوة السلاح على قطاع غزة عام 2007؛ لتتحمل بذلك الجزء الأكبر من مسؤولية الانقسام، ومن ثم تمت محاصرتها فلسطينياً وعربياً ودولياً.
رأبُ الصدع بين حماس وفتح مرّ بجولات حوار واتفاقات لا حصر لها، وجميعها فشلت في تحقيق الوحدة الوطنية. كان كل طرف يتهم الآخر بأنه سبب الفشل، ما دفع بالجميع- مواطنين ومسؤولين فلسطينيين وعرباً وأجانب وحتى "الإسرائيليين" إلى عدم رفع سقف التوقعات في جولات الحوار الحالية بالرغم من أنها تختلف عن سابقاتها من حيث الشكل والمضمون.
إن نية الرئيس عباس الجديّة - هذه المرة- تراها حماس أنها تجسدت من خلال وضع الشخص المناسب في المكان المناسب متمثلاَ في شخص جبريل الرجوب- أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح- الذي يتمتع بقوة وحضور عند الرئيس عباس. فمن منظور حماس، الرجل راغب في تحقيق المصالحة خلافاً لسلفه عزام الأحمد الذي لم ترَ فيه سوى عقبة في طريق أي اتفاق. في المقابل، وجود صالح العاروري- نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- بثقله القيادي يُطمئن فتح.
الحراك الحالي لم يأتِ من فراغ، ففي ظل الهجمة الشرسة الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال صفقة القرن، والدعم الترامبي اللا متناهي لـ"إسرائيل"، وقرار الضم، وهرولة الإمارات والبحرين إلى التطبيع، ناهيك عمن سيسير في ركابهما من دول عربية، وفي ظل جامعة عربية أصبحت لا هي بجامعة ولا بعربية بعد أن تخلت عن القضية الفلسطينية على نحو فاضح صارخ، وجدت فتح وحماس أن المشروع الوطني الفلسطيني بالفعل أصبح على شفير الانهيار، ولكن مقابل هذه المصلحة الوطنية، تكمن مآرب حزبية وشخصية.
فالرئيس عباس، الذي راهن طويلاً على مسار المفاوضات والحلول السلمية، يشعر أن التطبيع مع "إسرائيل" يهدد شرعيته، بعد أن أدار العرب ظهرهم للقضية الفلسطينية؛ لذلك سارع إلى التقارب مع جميع الفصائل الفلسطينية للتأكيد على وجود إجماع فلسطيني على شرعيته، تمثل في اجتماع الأمناء العامين للفصائل، تلته اجتماعات ثنائية القطبية بين فتح وحماس في تركيا وقطر اللّتين- كما أكدت لي حماس- مستعدتين لدعم المصالحة مالياً وسياسياً.
للمرة الأولى يجتمع الفريقان في اسطنبول، على الرغم من أن المصالحة في عهدة مصر بتكليف من الجامعة العربية، وهذا له دلالاته، ويرسل رسائل في عدة اتجاهات، بأن الرئيس عباس يتجه نحو المحور الداعم لحماس المتمثل بقطر وتركيا، ليرد الصاع صاعين للإمارات. جولات مكوكية يقودها جبريل الرجوب متنقلاً بين اسطنبول، والدوحة، ولاحقاً طار إلى القاهرة وعمان، نتمنى أن تؤتي ثمارها لإنجاز مصالحة وطنية شاملة جامعة.
حماس-من جانبها- في وضع لا تحسد عليه؛ حصار طال وامتد، وتراوح تارة بين التلويح بالمقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية الناعمة، وتارة أخرى بين التوصل إلى تهدئة مع "إسرائيل"، وما عادت تستطيع حمل أعباء قطاع غزة وحدها كونها السلطة الحاكمة، وهذا ما عبر عنه- على الملأ- رئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل حين اعترف أن حركته "أخطأت عندما استسهلت الانفراد بالحكم، وأن نظرية البديل هي نظرية خاطئة". لذا جاء التفاهم الأخير مع فتح للخروج من عنق الزجاجة، حيث تم التوافق على البدء بالانتخابات التشريعية، تليها الرئاسية، ومن ثم المجلس الوطني، وهي لطالما طالبت بأن تكون الانتخابات متزامنة.
صحيح أن حماس وافقت على إجراء الانتخابات؛ لكن السقف الزمني- الذي يمتد إلى ستة أشهر- يثير مخاوفها من أن عودة الرئيس عباس إلى الحوار هي مجرد تكتيك ومناورة لكسب الوقت إلى حين انتهاء الانتخابات الأميركية، وحينها قد يعود الرئيس إلى المسار التفاوضي مع "إسرائيل"، فالمرشح الأميركي للرئاسة جو بايدن ضد قرار الضم.
إن الدعوة لإجراء الانتخابات لا تعني- بالمطلق- إنهاء الانقسام، فهناك عقبات كثيرة تشكل قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، على رأسها: الموقف "الإسرائيلي" من إجراء الانتخابات في القدس، أو عدم مشاركة بعض الفصائل التي تعتبر أن ما يجري حالياً من حوارات هو محاصصة ثنائية، وأنها مجرد شاهد زور على عملية إدارة الانقسام، وقبل ذلك وبعده قضية موظفي حماس، وسلاح المقاومة، والبرنامج السياسي، والعقوبات المفروضة على غزة من قبل الرئيس عباس، ناهيك عن موقف المواطنين الذين لم يبدوا أي دافع ملموس للمشاركة في ظل حالة الإحباط وعدم الثقة بين الطرفين.
خلافات واختلافات بين فتح وحماس تطول قائمتها؛ السياسية منها، والأيديولوجية والإقليمية. والانتخابات ليست الحل السحري لإنهاء الانقسام، ولن تكون البوابة لوضع حد له بعد سنوات طوال، وما ترتب عليها من أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية وقانونية واجتماعية. فالانتخابات يجب أن تكون نتيجة، وليست مدخلاً، وعلى قاعدة الوحدة والشراكة والفعل المقاوم بأشكاله كافة، وعلى رأسها: الكفاح المسلح الذي أدى إلى اعتراف العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، في زمن كان فيه الفلسطينيون على قلب رجل واحد، وكان العرب يداً واحدة، فعندما عقدت مصر معاهدة سلام، جاء الرد العربي بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وتمت مقاطعة مصر، وخرجت الشعوب في مظاهرات احتجاجية، لكن البيئتين الداخلية والخارجية اليوم انقلبتا رأساً على عقب؛ فالفلسطينيون منقسمون، والدول العربية صمتت صمت القبور على إدانة التطبيع، والشعوب العربية تئن تحت وطأة تداعيات ما يسمى بـ"الربيع العربي"، و"إسرائيل" تراقب بصمت- أيضاً- ما سيتمخض عن هذه اللقاءات، أما أميركا فلوحت بإزاحة الرئيس عباس من المشهد السياسي على لسان سفيرها لدى "إسرائيل" في تصريحات لصحيفة " إسرائيل اليوم" حيث قال: إن بلاده تفكر في استبدال الرئيس عباس بعدوه اللدود محمد دحلان مستشار ولي عهد أبو ظبي، لتتراجع الصحيفة وتقول: إنه كان (مجرد خطأ مطبعي). هذا التصريح لم يمر مرور الكرام عند الرئيس عباس- بكل تأكيد- فهو تهديد علني يمس القيادة الفلسطينية.
ختاماً نقول: إن الاتفاق على تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية هي مجرد خطوة أولية بحاجة إلى ترجمة فعلية ميدانية ومن دون تردد، والشراكة الوطنية تتجلى من خلال إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني كاملاً على أسس ديمقراطية من خلال الانتخابات الشاملة، إلا أن إنهاء الانقسام يجب أن يكون على أرضية صلبة، وخياراً استراتيجياً لا رجعة عنه، ففشل الاتفاقات الماضية حاضر، فالشيطان لا يكمن في التفاصيل فقط وإنما في نوايا المتصالحين.