دور السلطة في التفاعل اللغوي

السّلطة التي تمارس عن طريق اللغة تكمن في السياق الاجتماعي الذي يتحدّث من خلاله المتكلم، أي التأثير الّذي يتمّ على المتلقّي عن طريق ما يستمدّه المتكلّم من المؤثرات الخارجيّة التي تتمثّل في المقام الاجتماعي.

  • دور السلطة في التفاعل اللغوي
    التفاعل اللغويّ أو الكلام يؤثّر في العلاقات الاجتماعيّة

إنَّ دراسة إثنوغرافيا الحديث اليومي في شكله الأكثر أصالة، تبيّن أن اللغة في أبسط استعمالاتها هي نتاج سيرورة من التفاعلات الكلامية بين أفراد المجتمع. وبصيغة أخرى، إنّ الإنتاج الكلامي المتمثل في المحادثات اليومية يُبنى في إطار سيرورة من التفاعلات بين الفاعلين. من هنا، نتوصَّل إلى نتيجة مفادها أنَّ اللغة غير مستقلّة عن سياق بنائها، ولا تأخذ معناها إلا داخل سياق إنتاجها، فهي تتحدَّد به، وبها ينتج الأفراد علاقات اجتماعية.

من جهة أخرى، إن اللغة بهذا المعنى الذي سبق ذكره لها أنساق متعدّدة، فالرمز والجسد عبارة عن أنساق تفاعلية فعالة تحمل ثقافة وعادات وتعاقدات اجتماعية متعارفة. إذاً، التفاعل اللغوي هو الركيزة الأساس في ربط العلاقات الاجتماعية، حيث تعد السلطة من صميمها. وتتجلّى العلاقات في الحديث اليومي الّذي ينم عن فعل سلطة، وبه تنتج وتتمظهر وتتعزز في العلاقات الاجتماعية، وبها يأخذ الحديث اليومي معناه. 

بما أنَّ مفهوم السلطة يعتبر من المفاهيم الأكثر شيوعاً واستعمالاً في العلوم الاجتماعية، فإننا سنقوم بتحديده تحديداً إجرائياً كخطوة أولية تفرض نفسها على كل باحث مبتدئ. إذاً، ما موقع السلطة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية؟ وكيف تناولها الباحثون في الحقل اللغوي؟

لعلَّ أحد الأعمال المهمّة المؤسّسة لمفهوم السّلطة في العلوم الاجتماعية يعود إلى السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، في مؤلفه الشهير "الاقتصاد والمجتمع". يحدد ماكس فيبر السلطة كالتالي: "السلطة تعني فرصة الفرد في فرض إرادته داخل علاقة اجتماعية معينة، على الرغم من وجود مقاومة لذلك".

في هذا التّعريف، يحاول ماكس فيبر أن يبيّن لنا مدى تجلّي السلطة بين الأفراد، من خلال ممارستها من طرف فاعل على فاعل آخر، فبحسب بعض الباحثين من أتباعه، إن التحديد الفيبري يتميَّز بنوع من الإرادة، أي أن السلطة مرتبطة بإرادة شخص ما في فرض سلطته على الآخر.

ونظراً إلى الأهمية التي يحتلّها مفهوم السلطة في أبحاث العلوم الاجتماعية، فقد تم بعث هذا المفهوم من جديد مع السوسيولوجي الفرنسي جورج بلانديه. ففي كتابه "الأنثروبولوجيا الأفريقية ومسألة السلطة"، يوضح أن السلطة مفهوم غامض، وهي تحيل، في نظره، إلى القدرة على تحريك القوى، إذ إنّ سوء استعمالها يؤدي إلى العنف، وبالتالي إلى اختلال في النظام، فهي عنصر منظّم للتراتبية الاجتماعيّة، والهيمنة والمنافسة من صميم السلطة.

بحسب هذا التحديد، السلطة هي عنصر مؤسّس للنظام داخل الوحدات الاجتماعيّة، فهي ليست شيئاً بعينه، بل هي علاقة اجتماعية يمارس الفاعل من خلالها سلطته على فاعل آخر لتحقيق أهداف معيّنة. إذاً، السلطة هي القدرة على التأثير في السلوك، في نظر جورج بلانديه.

أما أنطوني غيدنيز، فهو يقترح خصائص خاصَّة للسلطة، من خلال الموارد التي يمتلكها الفاعلون لممارستها، ويميّز بين 3 أنواع من الموارد:

أولاً: المعرفة.

ثانياً: المعايير والقيم الثقافية التي تمنح بعض الفاعلين سلطة شرعية أو تقليدية أو كاريزمية. 

ثالثاً: الموارد المادية أو الانتماء إلى بعض الشبكات.

وفي حقل آخر من حقول العلوم الاجتماعيّة، وتحديداً في إطار علم اجتماع التنظيم، تناول Erhard Freidberg في عمله السلطة والقاعدة، ودينامية الفعل المنظم، والسلطة في علاقتها بالفعل الاجتماعي. والسلطة، بحسب هذا الباحث، هي "التبادل اللامتكافئ لإمكانية الفعل". بهذا المعنى، يموقع السلطة في إطار علاقة التبادل. وهذا التبادل يكون بالضرورة متفاوضاً عليه بين فاعلين على الأقل متدخلين في هذه العلاقة.

إذاً، في هذا البعد العلائقي، يجد مفهوم السلطة معناه في سوسيولوجيا التنظيمات كعلاقة تبادل بين الفاعلين لإنتاج فعل معين. وفي إطار هذا الحقل، هناك بعض الباحثين الذين قاموا بدراسة علاقات السلطة في إطار أشكال جديدة لتنظيمات العمل، فبالنسبة إلى كل من Jean Guy Vaillancourt et Pouline Vaillancourt، هناك نموذج تصنيفي (modèle classificatoire) لأسس السلطة والرقابة التي يمكن أن تكون أداة تحليلية متميزة في حقل العلوم الاجتماعية. ونتطرق هنا إلى بعض أنواع هذه السلطات التي نراها مناسبة لمقاربة إشكاليتنا:

· السلطة التقنية، وهي تقوم على استعمال الوسائل التقنية والتكنولوجية، كالرقابة الإلكترونية مثلاً.

· السلطة الربحية، وهي تقوم على إعطاء الأفراد مكاسب مادية لحثّهم على فعل شيء ما، كالهدايا والعطايا.

· السلطة القهرية، وهي تقوم على العنف أو الحبس أو النفي أو التهديد.

· السلطة السوسيو-بنيوية، وهي تقوم على ميكانيزمات اجتماعية وتنظيمية، مثل التعاون والتقسيم الاجتماعي للعمل، كالتراتبية مثلاً.

· السلطة التقليدية، وهي تتأسَّس على استخدام الرموز والطقوس، كما تتأسَّس على الأفكار والأحاسيس.

· السلطة-الخبرة، وهي تتأسَّس على الكفاءة المهنية والمعرفة العلمية الّتي يمتلكها الفاعل.

· السلطة الكاريزماتية، وهي امتلاك الفاعلين لخصائص القيادة وقوّة الشخصية.

بعد أن أوضحنا مفهوم السلطة بشكل عام في العلوم الاجتماعيّة، فإننا سنتطرَّق إلى مدى علاقة السلطة بالتفاعل اللغوي، وهي تتمثّل في الإقناع، من خلال الحوار داخل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تتجلَّى في التأثير والتأثر بين الفاعلين، فالتفاعل اللغوي أو الكلام يتضمَّن السلطة عن طريق التأثيرات المتبادلة أثناء الحديث، من خلال الخطابات، كما جاء في قول نورمان فيركلو في كتابه "اللغة والسلطة"، فاللغة، كما ينظر إليها هذا الكاتب، "ليست بنية مستقلة ومجرد نظام من الجمل، بل اللغة بوصفها خطاباً وحدثاً تنتج من خلال التفاعل بين الأفراد، وعلى نحو مماثل، لا يتكون المجتمع من فسيفساء أفراد ينظر إليه في إطار بنية متراصة، بل بوصفه تكويناً ديناميكياً من العلاقات والممارسات التي يشكلها إلى حد بعيد الصراع على السلطة، فأصحاب المهن مثلاً لا ينتظمون في نقابات فحسب، بل في مؤسّسات تتشكّل أعرافها إيديولوجياً عبر تلك العلاقات، ويتم تمييزها من خلال تلك الخطابات المعينة".

لا شكّ في أن هذه الخطابات التي تجري بين الفاعلين عبر العلاقات التي تربطهم، يتمّ الوصول فيها إلى الغايات والأهداف والمصلحة المطلوبة عن طريق التأثيرات المتبادلة، وهو ما أشار إليه نورمان في قوله. ومن خلال الإيدولوجيا، تتشكّل أعراف المؤسسات، أي أن السلطة تمارس هنا عن طريق رسائل مؤثرة أثناء الحوار، وكل مشترك من هؤلاء المشتركين في حديث ما عن موضوع ما، يحاول أن يثبت صحة الفكر الذي يحمله عن طريق التأثير في المشاركين الآخرين من خلال كلامه وإقناعهم بصحّة ما يقول.

إنّ السّلطة هنا رمزية، تمارس عن طريق اللغة المنجزة بالفعل الكلامي، فالسوسيولوجي الفرنسي pierre Bourdieu تحدَّث عن اللغة كأداة تكمن سلطتها في خارج مكوناتها الصّرفية والصوتية والتركيبة... كما جاء في قوله: "إن من يحاول أن يفهم عن طريق اللسانيات سلطة الظواهر اللغوية ونفوذها، ومن يبحث في اللغة عن علة وتفسير فعالية لغة المؤسَّسة والمتحكم فيها، ينسى أنّ اللغة تستمد سلطتها من الخارج... في الواقع، إن استعمال اللغة، وأعني فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في الوقت ذاته، يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الَّذي يتحكَّم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسَّسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع... إنَّ الناطق باللسان مضلل عهد إليه بأمر التكلّم". 

إذاً، السّلطة التي تمارس عن طريق اللغة تكمن في المقام الاجتماعي أو السياق الاجتماعي الذي يتحدّث من خلاله المتكلم، أي التأثير الّذي يتمّ على المتلقّي عن طريق ما يستمدّه المتكلّم من المؤثرات الخارجيّة التي تتمثّل في المقام الاجتماعي.

من خلال ما سبق، نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ التفاعل اللغويّ أو الكلام يؤثّر في العلاقات الاجتماعيّة أو الروابط الاجتماعيّة بأشكالها وأنواعها، فالسّلطة هنا تؤدي دوراً فعالاً في جعل العلاقات تسري في الاتجاه المرغوب فيه لدى المتكلّم أو صاحب القدرة على تسيير الحوار، كما يمكن للسّلطة أن تكون سلاحاً لبعض الفاعلين في الوصول إلى غاياتهم، في ظلّ ممارستها عن طريق اللغة، فأيّ مستقبل للحوار الإنساني والتواصل بين الحضارات في أبعاده المختلفة إذا كان ينمّ عن فعل سلطة؟