مطبّعون أو مجرد أصنام؟

إن السياسة لا تنظر إلى المفاهيم، ولكنها تحاول إدراكها بما لها وما عليها من إيجابيات وسيئات.

  • مطبّعون أو مجرد أصنام؟
    واقعنا في أغلب دوله، وعلى وجه الدقة "دويلات الخليج"، تتحكم به عقلية الفكر الوراثي

إن موقعنا الحضاري اليوم مؤلم مع "فقهاء" التطبيع، وموقعنا الثقافي مؤلم أيضاً مع النخب من أنصار الحرب بالتطبيع ضد فلسطين، والأسوأ من ذلك هو أننا نسير إلى الوراء، وكأننا مجرد صورة كاريكاتورية تحركها الأصابع خلف الستار.

لسنا بؤساء بماضينا، فالحضارة كانت ذات يوم من صنعنا، وتوسعت دائرتها لتشمل كل حي وكل جماد، فمن أين جاء إذاً هذا البؤس السياسي وهذا التواري الثقافي؟ ولماذا؟ فإذا كان الحاضر - وهذا مؤكد - امتداداً للماضي، والماضي بالخصائص التي صنعته ما زال قادراً على دفع الواقع نحو سلم العطاء الحضاري، لأن ثوابته ما زالت بعد غير متآكلة، فإن الخلل في المواقف من معطيات الحاضر، ومتطلبات المستقبل، وثوابت التاريخ.

 إن الخروج عن حاصل الماضي والبدء في الحاضر بالتطبيع، يعني الانطلاق من الفراغ، والواقع الفكري يرفض هذا، ثم إن التمركز اللاواعي في حفريات الماضي (الوهابية التكفيرية والحكم السلالي)، بقصد اكتساب المواقع - حتى وإن كانت مواقع هشة - وعدم التجديد، وبالآليات التي تحكم الحاضر، هو بداية السقوط في اللاوعي.

أليس المستقبل خارج الهزيمة المجانية لرؤيتنا جميعاً؟ أليس من حق الأجيال أن تعيش في ضوء هذه الرؤية، وبالوجوه التي بإمكانها التأثير فيها إيجابياً؟

 إن السؤال لا يحتاج إلى شرح أو تأويل، إذ إن الكل يعي حقيقة التفكير في ما سيكون عليه مستقبل دول الخليج على وجه الدقة، ويعي أيضاً أن السير خلف القاطرة بالتطبيع والحكم غير الراشد والارتماء في المجهول، معناه بداية الانتحار، لأننا نعيش وضعاً عالمياً يتغير كل شيء فيه بسرعة، وتظهر مع هذا التغير مفاهيم لا ترحم أحداً، ولا تنتظر أحداً بقصد الوصول إليها والأخذ بمحتوياتها والتكيف أيضاً معها.

إن واقعنا في أغلب دوله، وعلى وجه الدقة "دويلات الخليج"، تتحكم به عقلية الفكر الوراثي أكثر مما تتحكم به العقلانية التي بإمكانها إعطاء تفسيرات للمفاهيم الجديدة وللتطور، بقصد الاحتواء المباشر والسريع لها.

إن السياسة لا تنظر إلى المفاهيم، ولكنها تحاول إدراكها بما لها وما عليها من إيجابيات وسيئات، والاعتقاد بأن الحكم وفق نظرية التوارث البشري لها، من دون تفاعل مع منتجات الواقع، ووفقاً للآليات التي تطرحها، يدفع إلى الأخذ بمبررات الأخطاء بدلاً من إلغائها، وهذا هو منطق التطبيع.

لقد قالت أميركا إن الإرهاب ظاهرة إسلامية، وقولها هذا ليس حكراً عليها، لأنها تدرك أن هذا الادعاء يجد صداه في الوطن العربي أكثر مما يجده في الأوطان الأخرى، وهي - بالتالي - تحاول من خلاله عقد صفقة سياسية جديدة تمرر من خلالها إشكاليات التخلف التي كرستها في سياستها تجاه الأنظمة العربية.

 وقد تم لها ذلك بداية مع الإمارات، ولاحقاً مع أتباعها السيئي الذكر.. إن الموقف الأميركي واحد من عهد إيزنهاور. إنه موقف الإحاطة السياسية بالمنطقة، من خلال دفع الواقع إلى التحرك باتجاه الأصنام، ووضعها موضع الوصي على العقل، فإذا جاءت متغيرات الواقع ضد رؤيتها، أوجدت إشكالية جديدة تجعل من التنافر الداخلي أو الإقليمي إشكالية ضاغطة وضامنة لمصالحها، وربما تزيد من حدة نفوذها، كما هو الحال الآن في إشكالية الحرب على سوريا واليمن.

إن إتاحة الفرصة للتغيير وسقوط نظرية التحكم السلالي (أحياناً عن فعل داخلي، كما تشير إليه اليوم بعض الشواهد في السعودية، وأحياناً عن قوة الفعل الخارجي)، بإمكانها أن تخرج المنطقة كلها من مخزون الماضي والقفز نحو المستقبل. 

إن الشعوب ليست أنعاماً تأكل بصمت، وتتقلب مع الظروف، وفق المناخ السياسي الذي يصنعها من خلف الأبواب المغلقة. إن افتراض الخيرية في أسرة أو جيل دون سواهما، يدفع الجميع إلى فهم الواقع وفق رؤى ليس لها حق ملامسة الواقع، أو حتى محاولات توصيفه توصيفاً حضارياً.

ولسوء الحاضر، فإن ظاهرة العنف السياسي على قسوتها وخروجها عن منطق العقل أحياناً، أوجدت إشكالية سياسية تحمل في طياتها قوة التغيير، ولو تداخلت لوقت ما مع إشكالية الفوضى.

وبالتأكيد، حين تتحكم مرجعيات العنف بصناعة الواقع، يصير كل شيء قابلاً للمراجعة، فتكون الثوابت السياسية المزعومة مجرد توصيات تزول بزوال الظروف التي صنعتها. 

إن الموقف السياسي الذي يصنع الدولة ويبرر وجودها على مستوى الواقع والتاريخ، لا يأخذ قوته إلا من الواقع وتحدياته، وإلا فإن الأحكام الجاهزة تصير مثل الثوابت، بيد أن التطور يأخذ من مراحله قوة تلائم محصلاته ومستجداته، فأين إذاً صورة الواقع الذي نتعامل معه؟ وأين حصتنا من المتغيرات التي يشهدها العالم في كل لحظة تقريباً؟

إذا كانت السياسة تأخذ من مشتقات الماضي المرتب وفق رؤى الحاكم المتفرعن ومحيطه، من دون الاعتراف بمحصلات الوضع الاجتماعي والثوابت التي استقرت ضمن ناتج المحصلات للأمة، فإنها تصير وهماً.

 

أنظمة عربية عدة، وبعد سنوات من التطبيع السري مع الاحتلال الإسرائيلي، تسير في ركب التطبيع العلني، برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية.