الجزائر والتحدي الليبي بين المتفرج والفاعل
النظام الدولي الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق مؤخراً، يفرض على الجزائر أن تُثَبِّت موقعها كفاعل فيه بصفتها قطب امتياز في شمال أفريقيا على الأقل.
تواجه الدولة الجزائرية العديد من الضغوطات على المستويين الداخلي والخارجي وفي ظرف زمني حساس جداً ومصيري بعد انتخاب رئيس جديد وتكليف حكومة جديدة أيضاً وفي ظل ظروف محلية وعالمية قاسية بما تعيشه دول العالم مع وباء كورونا الذي مسَّ كل دول العالم تقريباً، إضافة إلى الأخطار المحدقة بحدودنا الإقليمية والتطورات الدراماتيكية التي يعيشها الداخل الليبي والصراعات التي يعيشها منذ 2011.
وباعتبار أن ليبيا صاحبة أكبر حدود إقليمية بالنسبة للجزائر، فهي تعتبر عمقاً استراتيجياً لأمننا الوطني. والأزمة التي تعيشها ليبيا تَرجَمت الأطراف المتصارعة فيها خلافات الدول العربية والإسلامية أكثر من ترجمتها للخلافات الليبية الداخلية، ووسط هذه الصراعات يتساءل المتابع الجزائري عن موقف دولته من كل هذه التجاذبات، وجميعنا يعرف أن الموقع الجزائري دائما ما يتمركز في مثل هكذا أزمات على بعد خطوة واحدة من كل الأطراف "بتباين في الآراء حول طرف أو آخر"، فالعقيدة المتعارف عليها في السياسة الخارجية الجزائرية "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والمساعي الحميدة وغيرها من المواقف الأخرى" قد لا يطول الحديث بها وعنها مستقبلاً، خاصة في إطار الدستور الجديد الذي يُلَوِّحْ في الأفق، والحديث أيضاً عن إمكانية إحداث تغييرات في صلاحيات الجيش وإمكانية خروجه إلى ما وراء الحدود الوطنية إذا تعلق الأمر بأمن الدولة أو المشاركة في قوات حفظ السلام أو غيرها. ولا يمكننا حالياً التفصيل في هذا الجانب في ظل غياب المعلومات الكافية لتحليل هذا الإجراء.
وبالكاد لن ترضى الجزائر أن تكون حدودها الإقليمية الأكبر مشتعلة وتبقى في موقف المتابع المنكفئ، وقد شاهدنا الخطوة المصرية الأخيرة حين صادق البرلمان المصري على إرسال وحدات قتالية من الجيش المصري إلى ليبيا لمساعدة القبائل الشرقية الليبية في مواجهة القوات التركية والقوات الحليفة لها لتفادي سيطرتها على المناطق الشرقية المحاذية للحدود المصرية.
هذا ما يدفعنا للتساؤل حول الموقف الجزائري الذي لا يزال حتى الساعة في موقع المتفرج أو على الأقل غير الفاعل ميدانياً وسط أتون الأزمة الليبية لأسباب لعلها موضوعية ومؤقتة حتى الساعة لانتفاء أي تهديد يمس أمن الحدود الجزائرية بشكل مباشر، والاكتفاء بتحريك قَطعات عسكرية نحو الحدود الليبية تحسباً لأي طارئ قد يكون في المستقبل القريب.
وفي ظل المعطيات الحالية التي تعيشها منطقتا الساحل وشمال أفريقيا، فإن تكييف عقيدتنا الأمنية والعسكرية مع هذه المتغيرات المستجدة منذ سنوات أكثر من واجب للتعامل مع أي تهديدات يمكن أن تواجهها الدولة الجزائرية.
ففرض المنطق الجزائري في شمال أفريقيا لا تكفي فيه المساعي الدبلوماسية اللينة حصرا لتجسيده واقعاً، فالنظام الدولي الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق مؤخرا، يفرض على الجزائر أن تُثَبِّت موقعها كفاعل فيه بصفتها قطب امتياز في شمال أفريقيا على الأقل، نظرا لما تحوزه من مقدرات جيواستراتيجية تفرض عليها ومن منطلق واقعي بَحْتْ القيام بواجبها لضبط أمنها الإقليمي وتفادي أي تدخلات خارجية من شأنها أن تضيق الخناق علينا مستقبلاً إذا انتهت مرحلة بناء المنظومة العالمية الجديدة والتي حتماً ستتسم بِنْيتُها بالتعددية القطبية.
وحديثنا هذا يَنِم عن العديد من المعطيات المستجدة في منطقة المتوسط بعد صراع القوى الإقليمية على مربعات الغاز في حوض المتوسط، ومحاولة الأتراك تمديد قدمهم في شمال أفريقيا بإطلالة ليبية متوسطية شاسعة جدا من الشرق وقواعد أميركية جديدة على حدودنا الغربية، وتواجد فرنسي في حدودنا الجنوبية في مالي وحدود صحراوية شاسعة غير مؤمَّنة بشكل كبير مع ليبيا، وهنا موقع المتفرج سيكون مضرا بشكل أكبر بالنسبة لنا، والتحرك أصبح ضرورة وجودية في ظل هذه الظروف المعاشة.
إننا ندرك جيداً أن التدخل العسكري لن يكون بهدف توسعي كما هو الحال لبعض الجيوش التي تدخلت في سوريا أو ليبيا أو غيرها، إنما لتثبيت مناطق أمان إن صح التعبير تكون بعمق 30 كم على الأقل خلف الحدود لحماية أمننا الوطني بالاتفاق مع الأطراف الليبية والأطراف الدولية الأخرى وبناء مبادرات دبلوماسية توافقية بين الأطراف المتنازعة في الداخل الليبي وأخذ ضمانات من الأطراف الدولية والإقليمية التي تقف كل منها في صف معين على أن لا تُضِرَّ بهذه المبادرات، بضمانات جزائرية موثوقة لدى كل الأطراف.
فللجزائر باع دبلوماسي عريق وموثوق على المستوى العالمي يمكنه أن يُوفَّق لإيجاد ورقة تسوية للنزاع الليبي يرضي كل الأطراف ويضمن خروج كل القوى الأجنبية من ليبيا. كما يمكن إيجاد شخصية توافقية تُسَيِّر المرحلة المقبلة في ليبيا ويمكن أيضا للجزائر أن تؤطر مع شركائها الدوليين عملية بناء جيش ليبي وطني بعيد عن الانتماءات الأيديولوجية والسياسية خاصة إذا عدنا لقدرات الجيش الوطني الشعبي الجزائري من ناحية الخبرة القتالية والقدرات التسليحية وكذا العلاقات التي يحوزها مع القوى الكبرى التي يمكنها أن تساعد في تسليح وتجهيز الجيش الليبي مستقبلاً.
إن هذا الكلام ليس "محض تصورات شخصية أو أضغاث أحلام" إن صح التعبير، فالتجربة الدبلوماسية الجزائرية والمُقَدَّرات التي تحوزها الدولة ومؤسساتها المختصة في هذا الإطار تؤهلها لأن تقوم بهذا الدور بشكل كامل مع حفظ الأمن والسلم الدوليين من خلال تكييف عقيدتنا الأمنية والعسكرية على حد سواء مع التحرك الدبلوماسي الفاعل والمعهود من سياستنا الخارجية منذ الاستقلال.