صيانة الحريّة في حمأة نار المعركة
إنّ النجاح في إنتاج النموذج الاجتماعي القانوني الذي يصون الحرية وينظمها في عملية سياسية تساير جوهر تطور الحياة وتقدمها ليست حاجة محلية فحسب، إنما هي حاجة إقليمية ودولية.
ما بين شاعر ورجل دولة، تتفتّق فلسفة الحياة الاجتماعية لحل العقد وتشبيك الإنسان والمواطنة، فما دور رجل الدين في هذا الحميم المستعر؟ هل ينحاز إلى هذا أو ذاك، أو يهدئ النيران داخل الشخص، ويضع بينه وبين وجوده وصانعه - لا فرق إن كان هذا الشخص ملحداً أو مؤمناً، فكلاهما بحاجة إلى الطمأنينة - صلة وصل تبرد النار وتسمح لخصوبة الطبيعة بأن تولد سبل الحياة المتجدّدة.
وفي هذا السياق، تكمن الحاجة إلى فصل الدين عن الدّولة، فلا تتحكّم الدّولة بالدين، ولا يحكم الدّين الدولة. هي عبارة موجزة تختصر الكتابات والأفكار والأدوات والوسائل في جملة "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
اختطاف الحركة الاجتماعيّة
لقد اختطف السّلفيون والأصوليّون نواة التّغيير الضروري لمتابعة الحياة وتطورها؛ نواة مثّلت موجة ثانية في ثورة ساهم في التأسيس لها كتاب حداثيون شباب، أمثال الدمشقي نزار - ابن الحي التقليدي المغترب في مجتمعه - على قلاع البلاغة والنحو وكل الأصول الموروثة من القرون الماضية في دمشق، مركز تكوّنها الأول، فمتى ينهض المكمومون من جانبي الصّراع المتعدد الصدوع (عمودياً وأفقياً)، وينفضون عن كاهلهم غبار وركام وحديد هذه الحرب الظالمة (يحمل وزرها الفاعلون في جانبي الصراع) على الحداثة والتقدم؟
في قناعتي، إنّ الكتلة الأكبر المستكينة للضعف والخوف أو الرضا والمحافظة المتأصّلة في النفوس، مبعثرة في أجزاء الطوائف والأقاليم ما بين القرى والمدن. وحدها المدينة، بما تمثّله من واقع عملي حي للعبارة العلمانية وانصهار مجتمعها الحداثي، هي المنارة الاجتماعية، والحلم الذي يبدد الصراعات ويظلل المنازل في الحواضر جميعها. هنا، لا بد من وعي أن الزراعة والرعي وأعمال الريف والبادية تلائم الإنتاج في اقتصاد مغلق محافظ. أما الإنتاج الحداثي العلمي، فهو إدماج الصناعة والتكنولوجيا والعلم في القطاعات جميعها.
إنّ ثورة المجتمعات على التقليد المستنسخ الذي يستعيد فيه المتحاربون صورياً، المتفقون ضمنياً على الحافظة على كل بالٍ وفاسد وقديم يصلح للمتاحف ولا يصلح للحياة الحديثة في زمانها ومكانها، لا أمل لها في تحقيق الانتقال مع الضعف والخوف والرضا والمحافظة.
فشلت المحاولة الأولى بسبب اتفاق رجل الدولة الحاكم والسياسي المتلحّف بعباءة الدين على صيانة الأدوات والوسائل والتقاليد وعدم السّماح بالمسّ بها. وعلى الرغم من سحابة السّواد التي لا تزال تحوم فوق النيران الخامدة، منبئةً بقرب انتهاء المعارك العسكرية محلياً، فإن ترتيب المصالح بين القوى الإقليمية والدولية، في مشهد مستعار من ماضٍ استعماري غربي وشرق منتفض يرغب في أن يكون مشاركاً لا مستعمَراً.
إنجاز الحلّ المحليّ مفتاح التلاقي الإقليميّ والدّوليّ
إننا نرى، وإن ضعفت جذوة المعارك محلياً، أنّ حروب الإقليم في صراعات الوجود والامتداد وحروب القوى الجيوستراتيجية الغربية والجيوسياسية الشرقية، لا تزال متأجّجة، ولم تصل إلى نقاط التلاقي والاتفاق. وإذا كانت التوازنات الإقليمية والدولية في مراحل الصراع المحلي جميعها قد شكّلت عاملاً مهدئاً ومثبطاً للرؤوس الحامية، فإنها اليوم لا فرصة لها سوى برفع قوى المدنية المشتتة من تحت الركام، لتقوم بمسؤولياتها الأخلاقية والاجتماعية السياسية بإحلال السلم الاجتماعي، وليكون الحل الداخلي مفتاحاً للحل الإقليمي والدولي.
إنّ النجاح في إنتاج النموذج الاجتماعي القانوني الذي يصون الحرية وينظمها في عملية سياسية تساير جوهر تطور الحياة وتقدمها؛ عملية تقودها نخبة سياسية مدنية علمانية منتخبة من مجتمع موحد متفق على تنوعه، وحاجته إلى هذا التنوع الاجتماعيّ السياسيّ الطبيعيّ والتاريخيّ، ليست حاجة محلية فحسب، إنما هي حاجة إقليمية ودولية تضع المصالح المجتمعة في هذه البقعة الجغرافية قاعدة حلّ لانتظام المصالح جميعها، فهل ثمة آذان واعية تصغي، وأعين بصيرة ترى مخاطر استدامة الحرب؟