دمشق أرض الملمّات وعاصمة النبوءات

الأمم التي لا يُصان الإنسان فيها من دون تمييز، ولا تشعر أصغر المكونات الجماعية فيها بالحماية القانونيّة الإنسانيّة، لا ترقى إلى أن تكون أمّة مواكبة للتطور الحضاري والقانونيّ.

  • دمشق قلب العروبة النابض مستهدفة لكونها تمثل تاريخياً وجغرافياً حدّ البر الشمالي للمنطقة العربية
    دمشق قلب العروبة النابض مستهدفة لكونها تمثل تاريخياً وجغرافياً حدّ البر الشمالي للمنطقة العربية

إنَّنا نعي أن دمشق بدور القلب النابض عروبة مستهدفة، وأن هذا الدور طبيعيٌ، لكونها تمثل تاريخياً وجغرافياً حدّ البر الشمالي للمنطقة العربية، وأن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي اقتطع جزءاً من لحمها. لذا، وإن شعر المقربون بألمها، فإن اليد التي تلظى ليست كاليد التي في الماء، وهذا ما يفسّر عدم وعي الأجيال العربيّة الجديدة لأهمية فلسطين، رغم قداستها الاعتقاديّة.

بحاجة إلى أكثر من المقاومة

لكن ما يؤلم أنّ أسلوب وآليات إدارة الدور التقليدية ما عادا يلائمان التطوّرات المعرفيّة والسياسية والتكنولوجية الراهنة، وأنّ مقاومة العدوّ بالقوّة الصّلبة المستعارة لا تكفي وحدها لتحقيق انتصار كامل وشامل، حتى لو حقّقت نجاحات في المواجهة في أوقات معينة، فجميع المهددات الجيوبوليتيكية هي مخاطر جغرافيّة تاريخيّة دائمة، وليست مؤقّتة، ولا يستسلم فيها العدو، وخصوصاً أنه يعتمد على رصيد قرون من التراكم المعرفيّ والتكنولوجيّ، واعتماد قوة الحقّ المعنوية في مواجهته غير كافٍ للنّصر.

إذاً، النصر بحاجة إلى أكثر من المقاومة؛ بحاجة إلى تقوية بنية دولة المواجهة، بمعنى إعادة بناء الداخل، بالتوازي مع استمرار المقاومة، وهذا يحتاج إلى تصفير المشاكل الداخلية، وبناء ماكينة وطنية حديثة، فماكينة العمل القديمة استهلكت صلاحيّتها، حتى لإعادة إعمارها، وباتت تعطي بضاعة، إن لم تكن فاسدة، فهي بأقل تقدير غير صالحة.

هذا الأمر تثبته الوقائع، وهو ليس ادعاءً باطلاً، ففي ما عدا الانتصارات العسكرية التي تقوم على بذل الدماء والأرواح، لا نجد سوى الإخفاقات في التعليم والتعلم والعدل والقانون والصحة والطبابة والسياسة والإدارة والتنظيم.

أوليست هذه المعطيات كافية لتوليد القناعة بالحاجة إلى الإصلاح الشامل؟

تقوية العوامل الوطنيّة على حساب قوى التدخّل الخارجيّة

تقوم عوامل منع قوى الخارج من التدخل في الشأن الداخلي السوري على توافق السوريين والتقائهم على مبادئ وطنية غير مختلف عليها في عملية إعادة البناء. ولتكن اللجنة الدستورية التي تم التوصل إليها نقطة ابتداء من باب الواقعية السياسية، على الرغم مما يشوب عملية تكوينها من خروج على آليات تمثيل السلطة التأسيسية الأصليّة المتمثلة بالشعب السوري، لكنها الآلية التأسيسية الوحيدة المتاحة. ومن دونها، ستكون المزيد من التّضحيات والعذابات المؤلمة لكل من لديه شعور وطني سوريّ.

إنّ جميع الأمم المتحضّرة، لدى وضعها أساس بنائها الدستوري، قدَّمت حقوق المواطن وحرياته في الدولة الجديدة على جميع النصوص، وجاءت دساتيرها بداية لصيانة هذه الحقوق والحريات، كأساس لتحقيق دولة الحرية والعدالة الاجتماعية، والتي تلتصق من دونها بالممثلين الموجودين سمة طلاب السلطة وخدامها فحسب. فليكن إعلان حقوق الإنسان والمواطن السوري البند الأول في أعمال اللجنة الدستورية، وما بعده يؤسّس عليه.

هذا المنطلق يكشف مكنونات جميع القوى المتمثلة في هذه اللجنة ودواخلها، لأن صيانة حقوق المواطن السوري وحرياته تشكّل أساساً دستورياً مانعاً لتعدّي أيّ سلطة، ولا يسمح بتعسّفها، ويشكّل درعاً وطنية تؤسّس عليها قوانين مانعة ومحاصرة للإرهاب المتسلل إلى داخل الجغرافيا السورية، فالقضاء على الإرهاب ليس عملية عسكرية فحسب، وإنما هو مواجهة قانونية. 

وتعدّ تجارب الدول في الرقابة الدستورية المانعة للقوى الفاشية، سواء كانت قومية أو دينية، من الوصول إلى السلطة، آلية يستفاد منها في صياغة القواعد الدستورية عاجلاً، والقانونية آجلاً، لحماية المجتمع والدّولة السوريّة التي نأمل بها.

وحتى يكون ذلك أساس تفكير كلّ عضو في هذه اللجنة، يجب أولاً أن تحمّله القوى التي يمثّلها هذه المسؤوليّة قبل أي شيء آخر، وبعدها تنتظم نصوص تكوين السلطة واحدة تلو الأخرى تلقائياً وبسلاسة، فالأمم التي لا يُصان الإنسان فيها من دون تمييز، ولا تشعر أصغر المكونات الجماعية فيها بالحماية القانونيّة الإنسانيّة، لا ترقى إلى أن تكون أمّة مواكبة للتطور الحضاري والقانونيّ.