المجاعة تنمو بصمت
تتحكّم المجاعات بالقدرات العقلية للفرد، والسبب هو الفساد المستشري والعقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية لإخضاع شعوب المنطقة.
يقول نايجل تيمينزن، مدير الشؤون الإنسانية في جمعية "أوكسفام"، إن "المجاعة لا تصل فجأة أو بشكل غير متوقع، بل تأتي بعد شهور من التسويف وتجاهل التحذيرات. إنها عملية مؤلمة بطيئة، مدفوعة بالسياسات الوطنية القاسية واللامبالاة الدولية"، فكيف مع جائحة كورونا التي انعكست على أسعار المواد الغذائية في مختلف البلدان العربية، والسبب إما توقف الإنتاج وعمليات الاستيراد أو ظهور أزمة اقتصادية عالمية يستغلّها الأطراف لإخضاع الشعوب الممانعة!؟
في العام 1974، عُقد المؤتمر الغذائي العالمي الأول في روما جراء مجاعة بنغلادش، التي سجلت أعداداً كبيرة من الوفيات بعد الارتفاع الجنوني في سعر الأرز، وذلك بعد 3 أشهر من نهاية حرب الاستقلال البنغلادشية، التي خلَّفت بنى تحتية وأسواقاً مدمرة، وكان الفساد السبب الرئيسي لزيادة رقعة المجاعة.
حينها، حاول المسؤولون طمأنة المواطنين إلى أن الأزمة مؤقتة، إلا أن سعر الأرز استمر في الارتفاع حتى شهر كانون الأول/يناير، إذ أعلن عن انتهاء المجاعة رسمياً، لكن المجاعات في العالم لم تنتهِ، ففي العام 1992، تعرّضت الصومال لأكبر مجاعة، والسبب هو اندلاع نزاع مسلّح. وخلال الحرب الأهلية السودانية في العام 1994 أيضاً، شهدت مناطق عديدة في السودان مجاعات أدت إلى وفاة 100 ألف شخص.
في العام 1996، عقد مؤتمر عالمي آخر حول الأمن الغذائي، والسبب، بحسب المؤتمرين، هو تنامي القلق حيال القدرة على الزراعة وتلبية الاحتياجات الغذائية في المستقبل، وانخفاض المعونات الغذائية خلال السنوات الثلاث حتى العام 1996.
وقال القائمون على المؤتمر إنهم يسعون إلى استئصال الجوع، ومعالجة سوء التغذية، وتحقيق الأمن الغذائي المستدام لجميع الناس، وتوقّعوا حينها وجود 800 مليون نسمة من الجياع في جميع أنحاء العالم.
تحت عناوين مختلفة، عُقدت المؤتمرات خلال العامين 2002 و2009. ورغم هذه المؤتمرات والخطابات والتقارير وصرف الأموال، أخذت المجاعات تزداد. وفي العام 2016، أعلن رئيس مالاوي، بيتر موثاريكا، حالة "الكارثة القومية"، نتيجة موجة حادة من الجفاف، فناشد الجهات الداعمة تقديم 1.2 مليون طن من الذرة لسد النقص المتوقع، والسبب هو موجات الجفاف التي تفاقمت بفعل ظاهرة النينو المناخية، التي أثرت في محصول الذرة، ما جعل نحو 16 مليون شخص يواجهون خطر الجوع.
وفي العام 2017،قدّرت منظمة الأمم المتحدة من أجل الطفولة أن عدد الأطفال الجياع في اليمن ونيجيريا والصومال وجنوب السودان يبلغ 1.4 مليون طفل لكن الأمم المتحدة اعتبرت أن المجاعة في اليمن أسوأ كارثة يصنعھا الإنسان في التاريخ الحديث، فقد تعرض حياة ما قدر بنحو مليونين من النساء الحوامل والمرضعات اللواتي يعانين من سوء التغذية لخطر الموت، نتيجة العدوان السعودي على اليمن وفرض الحصار.
يقول وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كسينجر، إن السيطرة على البترول هي الطريق للسيطرة على الدول. أما السيطرة على الغذاء، فهي السبيل للسيطرة على الشعوب، فمن الواضح أن الحروب تغيّر شكلها وأساليبها، بعدما اعتبر محور المقاومة أن الإنسان هو مفتاح الانتصار، وليس الآلة، واتكلت المقاومات على القوة الشعبية مقابل الجيوش المنظمة بأحدث الوسائل، فبدأ التركيز على إضعاف القوة الشعبية التي تستند إليها المقاومة، من فنزويلا إلى إيران وسوريا، وصولاً إلى لبنان، فمن خلال العقوبات الاقتصادية، يصبح كل مواطن مستهدفاً بشكل شخصي، الأمر الذي يجعل الناس، بحسب تقديرات الإدارة الأميركية، يبتعدون شيئاً فشيئاً عن احتضان المقاومة، والانشغال بتدبير أمورهم بعد صرفهم من الوظائف بسبب سوء الأحوال الاقتصادية.
في المقابل، تؤمن الإدارة الأميركية الفرص لتوظيف المئات من الشباب والشابات في الشرق الأوسط، وفي مختلف المجالات، أبرزها الإعلام. وهنا يبدأ صراع الإيديولوجيات واختلاف التعابير والأدبيات، ويصبح السيد حسن نصرالله "حسن نصرالله"، والمقاومة "ميليشيا"، ويكاد الشهداء، أمثال الحاج عماد مغنية وعلاء البوسنة، يصبحون قطّاع طرق بدلاً من كونهم شهداء على طريق فلسطين، إذ تتحكّم المجاعات بالقدرات العقلية للفرد، والسبب هو الفساد المستشري والعقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية لإخضاع شعوب المنطقة.
ففي لبنان، سرّع انتشار فيروس كورونا الأزمة الاقتصادية، وعطّل المرافق العامة والمؤسسات الخاصة، ليبلغ عدد العاطلين من العمل، بحسب "الدولية للمعلومات" 32% من اللبنانيين، والنسبة آخذة إلى الازدياد، في ظل غضب شعبي لم يظهر بشكل واضح إلى الآن، بسبب الالتزام بالحجر المنزلي، لكن ذلك يلاحظ من منشورات اللبنانيين في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يتنبأون بعودة مجاعة العام 1915 عقب الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها 200 ألف لبناني، أي ثلث سكان لبنان آنذاك.
اليوم، تظهر دعوات لتشجيع اللبنانيين على زراعة الخضراوات والفواكه، واستغلال الأسطح والشرفات كنوع من التشجيع المعنوي، وهي شبيهة بدعوة الحكومة الأميركية الأميركيين عقب الحرب العالمية الأولى والثانية لما سُمي بـ"حدائق النصر"، وتتمثل بزراعة الحدائق العامة بالخضراوات والفواكه لتوفير الغذاء للجميع.
وما أشبه الأمس باليوم! سوى أن أساليب الحروب اختلفت، من القذائف إلى الأمراض والجراثيم والعقوبات الاقتصادية، لتعيد إحياء مفهوم "السيادة الغذائية"، في ظل ظروف اقتصادية رهينة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.