الانتصار في المسلسلات والأفلام لن يلغي ثقافة المقاومة
بين المقاومة والعدو، سينتصر الأكثر صدقاً في أرض الواقع، ليس فقط في الأفلام والمسلسلات.
استطاع الشعب الأرمني رغم مرور 106 أعوام على المذبحة الأرمنية، تذكير العالم بأبشع المجازر التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية. وإلى اليوم، يحيي الأرمن الذكرى من خلال القداديس والاحتفالات والمراسم، واستطاعوا توريث أحقية قضيتهم عبر الأجيال، من خلال سرد الحكايات عن بطولات المقاومة الأرمنية في وجه العثمانيين.
ما بين العام 1915 و1917، كانت وسائل الإعلام بدائية جداً، لكن عدداً من صور المجازر والتشريد كان كافياً لصنع شعور الانتماء إلى من تعرضوا للقتل والتعذيب، فامتلأ الأدب الأرمني بالحكايات والقصائد، وأنتجت الأفلام السينمائية والوثائقية لترسيخ القضية في عقول الأجيال القادمة، فكيف بفلسطين التي لم يمضِ على احتلالها 75 عاماً، ولا يزال الاحتلال الاسرائيلي يمارس اعتداءاته بشكل يومي على شعبها؟!
لقد أشبع العدو الإسرائيلي العالم العربي بالمجازر، فما إن ينتهي شهر فيه ذكرى مجزرة ارتكبها، حتى تأتي ذكرى مجزرة ثانية أو ذكرى استشهاد مقاوم. وقد أصبحت القضية الفلسطينية والعداء لـ"إسرائيل" أمراً بديهياً، وتذكّر الإعلانات الترويجية لفلسطين والمقاومة ومشاهد الاعتداءات الإسرائيلية، المشاهد العربي بشكل يومي بأنّ الأمر ليس على ما يرام، وثمة مظلومية تعاني منها الأمة.
تختلف القضيّة الفلسطينيّة عن سائر القضايا، فمعظم القضايا التي مضت انتهى جرحها وبقي الألم يئن في الشعر والأدب والأفلام، لكن الجراح في العالم العربي جراء الاعتداءات الإسرائيلية متجددة بشكل يومي، تارة بغارات جوية، وتارة بقتل متظاهرين يرفضون الاحتلال، في وقت تعمل المقاومة على تعبئة المقاتلين من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق حتى اليمن، إذ إن الإنسان في العالم العربي يعيش معاناة الاحتلال.
وبغباء، يعمق الاحتلال الوجع أكثر حتى الروح، فليس مطلوباً من الإعلام العربي الكثير من الجهود لتذكير الناس بألمهم وهم يعيشون تلك اللحظات في تكفين الأحباب ودفنهم، فليس الألم مشروطاً بالدم. ثمة نزيف اقتصادي أيضاً تحاول الإدارة الأميركية فرضه على كل من يقول لا للاحتلال.
يأتي دور الإعلام المقاوم في وجه إمبراطوريات الخليج الإعلامية التي تحكي ما يناسب البلاط الملكي، ولو كان باطلاً، مراهنةً على أن العرب يتقبلون أي شيء يبث لهم بإنتاجات وإمكانيات ضخمة، إلا أنّ ضخامة الإنتاج وجمالية اللقطات والمؤثرات لا تدخل وجدان المشاهدين، لأن الأعمال الدرامية لا تنجح ما لم تقنع المشاهد بالانتماء إلى ما يشاهده، فيما تنجح الأعمال الدرامية ذات التكاليف المتواضعة،. ما يطرحه مسلسل "حارس القدس" في هذا السياق على قناة "الميادين" يتماهى مع قضية يعاني منها الشعب العربي، كما تربت عليها الأجيال العربية، فهم من وضعوا صور القدس والمناضلين والمقاومين في المنازل والمقاهي، ليتذكروا دائماً أن ثمة حقاً يجب أن يُستعاد.
للتطبيع وجه اقتصادي أيضاً، فرغم خروقاته، ورغم الأزمة الاقتصادية في لبنان، ثمة تحدٍّ كبير يواجهه جمهور المقاومة، إذ بات واضحاً أن ثمة مخططاً لإجبار لبنان على المضي نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي أو تقديم التنازلات، إن كان في ملف ترسيم النفط أو خيار الذهاب إلى صندوق النقد الدولي.
وفيما تزداد الأزمة الاقتصادية في لبنان سوءاً، تترقب الإدارة الأميركية خروج الناس من عباءة المقاومة والمطالبة بحلول اقتصادية، ولو كانت بالتخلي عن خيار المقاومة، لتبدأ مرحلة التمهيد للسلام مع العدو الإسرائيلي.
في الجانب الثاني، تطرح المقاومة خيارات أخرى، أولها إعادة العلاقات مع سوريا، ووقف هدر المال العام، والذهاب شرقاً، ليصبح الصراع بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة الخاصرة الرخوة التي يمكن للعدو الإسرائيلي استغلالها عبر حلفائه الخليجيين المطبعين، من خلال العلاقة الوطيدة بين أصحاب القرار في الخليج وحلفائهم من المصرفيين أو من يمون عليهم في لبنان، وذلك كله في وجه منظومة من القيم الاجتماعية التي تربت عليها فئات واسعة من اللبنانيين، تعيدنا إلى محاضرات إمام المقاومة السيد موسى الصدر عن الصبر والتحمل، وأن "إسرائيل" شرٌ مطلق، إذ يعتبر العصر الحالي، رغم قساوته، ذهبي بالنسبة إلى المقاومة، في زمن كان المقاومون يعيشون ظروفاً صعبة.
اليوم، تنشط المجموعات الشبابية في الضاحية لجمع التبرعات ومساعدة المتضررين من الأزمة الاقتصادية، وتساهم المقاومة والميسورون في تخفيف العبء الاقتصادي عن الناس، رغم أن ذلك لا يعفي الدولة من تحمل مسؤولياتها، لكن المقاومة تعني الكثير للبنانيين، فهي من حررت الجنوب، ومنعت الإرهابيين من دخول لبنان، وسجلت بعض الإنجازات في اللجان النيابية.
ولا مبالغة في القول إن المقاومة تعني جزءاً من الدِين لدى البعض، وقضية قومية وتحرير أرض لدى الجزء الآخر، فيما عجز الاحتلال عن تحويل قضية احتلاله إلى قضية شعبية داخل الكيان، بل اقتصر فهم الصراع على أصحاب القرار والمحركين وبعض الجماعات المتشددة.
تطرح وسائل الإعلام الحديثة مواضيع مثيرة للجدل بين الشباب، ما يعيد طرح أسئلة كانت أجوبتها من البديهيات في زمن معين، مثل: لماذا أنا موجود؟ ما الهدف من الحياة؟
هذا النمط من المواضيع لم يؤثر بشكل فعلي في ثقافة المقاومة وهي في خضم صراع البقاء مع كيان مجرم ومحتل. يجيب محمود درويش عن سؤال وجودي بقوله: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، بينما يصعب على المستوطنين الإجابة على سؤال تواجدهم في أرض فلسطين، والسبب يكمن في غياب شعور الوطن لديهم.
يقول أحد الجنود الصهاينة في فيديو مسرب بعد رفضه الانصياع إلى أوامر الضابط: "ماذا نفعل هنا! لا أريد أن أموت". في الجانب الآخر، تظهر مواقع التواصل الاجتماعي صورة مصغرة من الثائرين والمقاومين وصور الشهداء، ويمكن تصفّح بعض الحسابات، لتجد الكثير من تشي جيفارا وعماد مغنية والسيد حسن نصرالله وعبدالناصر والشيخ أحمد ياسين، كما هناك الكثير من الثائرات، من مثل دلال مغربي وسهى بشارة وسناء محيدلي، ولكن بطلّة حديثة وجميلة، والمستعدين للتضحية من أجل قضيتهم.
لقد نجحت ثقافة المقاومة في استقطاب الشباب العربي واعتناق ثقافتها، ومتابعة الأخبار والأحداث، ودخول عالم الصحافة الرقمي، وصراع الآراء في مواقع التواصل الاجتماعي، والتباين في الآراء، والمجاهرة بحب فلسطين والمقاومة، ودخول الكوفية في أزياء الشباب والشابات، رغم خطورة ما قد يتعرضون له من عدم موافقة سفارات البلدان الغربية على طلباتهم، إلا أنهم يتحدّون ذلك بقول الحقيقة، ليتجلى الصراع بين أن تكون على حق أو تكون متخاذلاً.
والأهم وجود جيل مجهز للقيام بأعمال عسكرية، وخاضع لدورات قتالية عالية، فقد كشفت الحرب السورية عن وجوه العديد من الشبان الحالمين بالشهادة.
يبدو الذهاب إلى خيار التطبيع بعيداً من عقول الشباب العربي، وهم الذين ينظرون إلى المقاومة في فلسطين ولبنان على أنها المثال، متحدّين أنظمتهم المطبعة بنشر الأوسمة والأدب المقاوم الذي أصبح رائجاً في هذه الأيام.
بين المقاومة والعدو، سينتصر الأكثر صدقاً في أرض الواقع، ليس فقط في الحكايات والأفلام.