خلاف "النهضة" و"الشعب".. ظاهره نزاع سياسات وباطنه صراع سرديات
صراع "النهضة" مع "حركة الشعب" محكوم بتفاصيل الفاعلين الإقليميين الكبار ضمن جغرافيات تقسيم المقسم وحيثيات المكاسرات التي يعيش الوطن العربي على أنقاضها.
يمرّ الائتلاف الحكومي في تونس بواحدة من أسوأ مراحله وأصعبها منذ تشكّله نهاية شباط/فبراير الفائت، إذ باتت لهجة التخاطب ونبرة الاتهامات وحدّتها بعيدة كل البعد من أي تقارب سياسي، ناهيك بتحالف حكومي صرف.
التشابك ضمن الصف الحكومي مركّب ومتداخل، وفيه شيء من مناكفات "النهضة" مع "التيار الديموقراطي" على عدة ملفات، من بينها إدارة ملف الفساد وصلاحيات وزير الوظيفة العمومية السيد محمد عبو، وفيه أيضاً أشياء من الصراع بين "النهضة" و"تحيا تونس"، أثاره القيادي في الحزب مبروك كرشيد، وفيه أيضاً مشاحنات بين "النهضة" والرئيس قيس سعيد، الذي من الواضح أنه خارج التصنيف الحزبي، وليس عصفور "النهضة" النادر.
أما أخطر النزاعات القائمة، فهو بين "النهضة" و"حركة الشعب"، وقد امتد بسرعة النار في الهشيم من صفحات الفايسبوك إلى وسائل الإعلام الجماهيرية. وعلى الرغم من وساطات التهدئة كافة، فإنّ فتيل الأزمة لا يزال مشتعلاً، ولا سيما أن النافخين في أوار الصراع النهضاوي الشعبي كثيرون، والمراهنين على سقوط الحكومة عديدون أيضاً.
وقد قُلنا إن تجاذب "النهضة" و"حركة الشعب" هو التجاذب الأصعب والأخطر على حُكومة إلياس الفخفاخ، لأنه صراع نابع من إيديولوجيات عميقة تؤثر في الأداء والمسلكية والخطاب.
ومعنى الإيديولوجيا هنا لا نعني به فقط التصورات الفكرية والعقائدية والمقاربات الكبرى المستحكمة بمسار الفكر والحاكمة لمصير التحالفات، بل أيضاً امتزاج الخاص بالعام، والمحلي بالإقليمي، والجزء بالكل، وبالتالي الانخراط في حالة سببية من الأثر والنتيجة بين الشأن المحلي التونسي والشؤون الأخرى ضمن الفضاء العربي.
صراع "النهضة" مع "حركة الشعب" يتجاوز الجغرافيا التونسية، فهو امتداد للاصطفاف المتقابل بين محور قطر تركيا من جهة وجبهة المحاور الأخرى، تارة بعنوان المحور السوري الإيراني، وتارة أخرى بعنوان المحور الإماراتي السعودي المصري، وثالثة بعنوان جبهة إحياء الأنظمة السابقة التي سقطت كلياً أو جزئياً بفعل حراك "الربيع العربي".
صراع "النهضة" مع "حركة الشعب" محكوم بتفاصيل الفاعلين الإقليميين الكبار ضمن جغرافيات تقسيم المقسم وحيثيات المكاسرات التي يعيش الوطن العربي على أنقاضها منذ العام 2011، فما يحدث في سوريا بين النظام السوري والنظام التركي من توافقات أو تباينات له صدى في تونس، وما يحصل في ليبيا من حروب الوكالة بين النظام التركي والقطري من جهة وجبهة النظام المصري والإماراتي من جهة ثانية، إضافة إلى تفاصيل عودة القذاذفة من بعيد، له وقع على مسار التقارب أو التباعد بين الإسلاميين والقوميين في تونس.
المفارقة أن "النهضة" و"حركة الشعب" المعنيتين بالصراع في سوريا وليبيا ومصر، وحتى الجزائر، لا تمتلكان آليات التأثير، ولا مقدرات التغيير، ولا مقومات التحوير، سواء في مستوى طبيعة الصراع أو المتصارعين أو موازين القوى السياسية والعسكرية والاستراتيجية الكبرى.
لا يعني هذا الأمر الترويج لمقولة "قومنة المحلي" أو الانكفاء عن الانخراط في مشاريع هي بطبيعتها مشاريع إقليمية وعابرة للحدود الوطنية، ولكن عندما يصير صراع العواصم في الخارج صراع أجندات في الداخل، وعندما تصبح مكاسرات القوى الإقليمية أولويات مناكفات سياسية قد تصل إلى وضع حكومة الفخفاخ على حافة الهاوية، فيا خيبة المسعى!
إنّ التركيز على الصراع في طابعه وصيغته الميكروسكوبية، من شأنه أن يضيع البوصلة المعرفية لهذه المقالة، فالنزاع القومي الإسلامي الحاصل تقريباً في العواصم العربية كافة هو نتاج منطقي لثلاثة أمور كبرى، الأول هو تلبّس الأفكار القومية والإسلامية بالأنظمة السياسية، وتحوّل الإجرائي إلى مرجعية للتفكير، ما أسقط قيمة النقد والمراجعة، والثاني هو حدود كل محاولات التقريب بين الإسلاميين والقوميين إبان التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة، لعدة اعتبارات موضوعية وذاتية، والثالث حادث "الربيع العربي" الذي قضى على كل آمال التقارب بين الطرفين.
كانت ميادين ليبيا 2011 وسوريا 2012 و2013، أجزاء مهمة من مشهدية صراع اقتبس فيها الإسلاميون من سرديات الوثوقية والطُهرية الكثير، بقصد تقديس عناوين صراعهم المسلح أولاً، وتدنيس الطرف المقابل، الذي كان، ولمرتين، ينتمي إلى الفضاء القومي.
وعندما بدأ المشروع الإسلاموي بالارتكاس والانتكاس في مصر 2013، وسوريا 2014، وفي الضعف في تونس 2014، كان التيار القومي في الكثير من العواصم العربية قد اتخذ موقفه المبدئي والجوهري بأن التقارب الجوهري والاستراتيجي لا يكون مع التيار الإسلامي، بل مع التيارات اليسارية والوسطية المؤمنة بالاقتصاد التضامني وبمحاربة العولمة والرأسمالية والليبرالية والصهيونية والدفاع عن قضية فلسطين.
كان من المأمول من التجربة التونسية التخفيف من حدة الاستقطاب بين الإسلاميين والقوميين، والدخول في تجربة حُكم قد تنقص من حروب السرديات السياسية والفكرية والتاريخية، وتعيد إحياء مدونة ثقافية معتبرة، صاغها عدد من المؤمنين بأهمية تقارب جناحي تيار الهوية في الوطن العربي، إلا أنّ المناكفات الحاصلة حالياً تؤكد أن التقارب حصل على الغنيمة، وأن الصراع الإيديولوجي لا يزال يتخفى في التفاصيل وفي الأفكار الكبرى أيضاً.
فوّت "الربيع العربي" على الأمة العربية فرصة حقيقية لتقارب إسلامي قومي مبنيّ على مدوّنة صاغتها مؤتمرات عديدة للحوار القومي الإسلامي، برئاسة السيد منير شفيق وتنسيقه. ولئن كان بالإمكان إحياؤها وتطويرها وتحيينها، فإن هذه المسؤولية ستكون للأجيال القادمة، بعد أن زادت الأجيال القائمة إيغالاً في ندوب الماضي وجروح الأمس.