الأزمة الاقتصادية في تونس: من هنا يبدأ الحل
النهج المتّبع فرض تخلّي الدولة عن دورها التنموي وأفقدها سيادتها الاقتصادية، وباتت الأوضاع تُنْذِر بكارثةٍ خاصة بعد أزمة جائِحة كورونا.
تعيش تونس في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية نتيجة سيطرة النهج النيوليبرالي، بالكامل، على البلاد، بما في ذلك الخصخصة الواسعة، وتحرير السوق وحركة رؤوس الأموال، وتركيز الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الأكثر ربحيّة، قطاعات البنى التحتية والعقارات والسياحة والبنوك، ما أغرق البلاد في المديونية والعجز المالي، ودمّر المؤسّسات الإنتاجية في الصناعة والقطاعات الحِرَفية، وفكَّك الإنتاج الريفي الفلاحي.
هذا النهج فرض تخلّي الدولة عن دورها التنموي وأفقدها سيادتها الاقتصادية، وباتت الأوضاع تُنْذِر بكارثةٍ خاصة بعد أزمة جائِحة كورونا، لذلك لم تعد عودة الدولة للعب دورها المركزي في عملية التنمية وتوجيهها لتحقيق الأهداف الوطنية لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار خيارا بل أصبحت ضرورة، فالتخطيط المركزي هو الآلية الأكثر نجاعة التي تُمكّن من استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية بطريقةٍ علميةٍ لحماية الدولة والشعب على السواء.
إن المرحلة تتطلّب الاعتماد على الذات بديلاً عن الاعتماد المُفرط على الخارج وخاصة الاتحاد الأوروبي، حيث أن الانفتاح التام على العوامِل الخارجية استيراداً وتصديراً على السواء ساهم في تسرّب القُدرة الشرائية التونسية إلى البلدان الأوروبية وبالتالي تقلّصت فُرَص الاستثمار الداخلي وباتت إقامة المشاريع خاضعة لرغبة الشركات الأجنبية في ما تريد ترويجه من سِلَع وما يرافق ذلك من توجيهٍ خارجي المصدر لاستيراد السِلَع والمواد الأولية والمهارات التقنية والإدارية، وبالتالي توجيه نمط التنمية في مسار يتعارض مع أولويات المجتمع ومصلحته سواء كان هذا التعارُض جسيماً أو محدوداً، ويظهر ذلك جلياً في تفاقُم استيراد الحاجات الغذائية للشعب التونسي وانهيار قطاع الإنتاج الفلاحي.
ولن تتم إعادة النظر في الأولويات الوطنية، وذلك بالاهتمام بتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب في مجالات الصحة والتعليم والنقل وتوفير فُرَص العمل وتحقيق الأمن الغذائي، إلا بعودة الدولة بخطةٍ مركزيةٍ للإنقاذ والبناء الاقتصادي من خلال:
1. الشروع في وضع خطط طموحة مرنة قصيرة ومتوسّطة بالنسبة إلى مجالات الاستثمار وتشكيلة الإنتاج وأهداف التصدير، واستخدام معايير اقتصادية رشيدة في وضع هذه الخطط، ومن أهمّها معيار الميزة النسبية الدينامية التي تأخذ بأسعار المُنافَسة العالمية وظروفها على المديين القريب والمتوسّط.
2. عودة الدولة للتدخّل في سياسة الأسعار والحوافِز للإسراع في عملية التوسّع في مجالات معيّنة، مثل تصدير السِلَع الصناعية، والاكتفاء الذاتي في الإنتاج الفلاحي، والحد من استهلاك السِلَع الترفيهية.
3. الشروع الفوري في تعبئة الموارد المالية، حيث يُعتَبر شحّ الموارد المالية قيداً خانقاً على التنمية في تونس لا يمكن تجاوزه إلا بــ:
أ. السيطرة الكاملة على قطاع المال والبنوك، وإلغاء قانون استقلالية البنك المركزي، ومن هنا يتمّ التحكّم الشامل في توجيه الاستثمارات حسب أولويات الخطة.
ب .تطوير الأداء الاقتصادي ورَفْع مستواه وإنتاجه ومن ثم ترشيد استخدام الناتج الوطني، بحيث تزداد الموارد المالية المُتاحة للادّخار والاستهلاك، وترشيد استخدام الموارد وفي هذا السياق ضرورة فرض الضرائب التصاعُدية على الثروات الكبرى والحد من الإنفاق غير المُنتِج ووقف عملية الهَدْر في الإنفاق والبلبلة في الأولويات من أجل توفير مزيد من الموارد.
ب. إجراءات حاسِمة لمقاومة التهريب وإدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد المُنظّم وإصلاح جبائي عميق يُكرّس العدالة الجبائية ويمنع التهرّب الجبائي ويوفّر الموارد المالية الضرورية لميزانية الدولة.
ج. تعليق سَداد الديون بقرارٍ سيادي مثلما حصل مع إيسلندا في أعقاب أزمة 2008 التي نظّمت استفتاءين تحت ضغط الشارع حيث رفض في الأول 90 % من الناخبين تعويض المملكة المتحدة وهولندا، ورُفِضَت خطة التعويض الجديدة بثلثيّ الناخبين في الاستفتاء الثاني، وقامت الحكومة بعد ذلك بمنع هروب الرساميل، وكسبت إيسلندا الدعوة التي رفعتها المملكة المتّحدة وهولندا أمام محكمة العدل التابعة لرابطة التجارة الحرّة الأوروبية.
4. ضرورة العمل على استرجاع السوق الداخلية والاستفادة من موقع تونس الاستراتيجي، لأنه من التحديات التي تواجه بلادنا هي محدوديّة السوق الداخلية وهو حجم لا يسمح بقيام منشآت صناعية ضخمة لأغراضٍ داخليةٍ، فضلاً على افتكاك السوق الداخلية من قِبَل المنتوجات الخارجية نتيجة التوريد العشوائي والتهريب. ولمواجهة هذا التحدّي يتعيَّن اتّخاذ:
أ. سياسات حمائية لاسترجاع السوق الداخلية، وتوجيه جزء من الإنتاج لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين كغَرَضٍ مركزي قبل استهداف إنتاج سَلَع وخدمات كمالية أو ترفيهية.
ب. الاستفادة من الموقع الاستراتيجي لبلادنا كنقطةِ قوّةٍ لتجاوز محدودية حجم السوق الداخلية.
ج. العمل على زيادة حجم الصادرات من خلال توسيع قاعدة الإنتاج وتحسين نوعيّته ما يوفّر مصادر مالية مُتزايدة، ويمكن لقطاع التجارة أن يكون أحد أعمدة التنمية إذا اعتمدنا سياسات مُلائِمة لتنمية قطاع الفلاحة والصناعة والخدمات.
5. عرض كل الاتفاقيات الدولية الثُنائية التي يمكن أن تعيق تنفيذ الخطة الوطنية للاستفتاء للتعديل، أو الإلغاء بما في ذلك عقود الطاقة إلى جانب تعليق العمل بكل القوانين التي لا تتلاءم والخطّة الوطنية الجديدة.
6. تشريك الجيش الوطني في إنجاز الخطة الاقتصادية وذلك عبر إنجاز مشاريع البنية التحتية المُبَرْمَجة لخفض التكلفة ومدة الإنجاز، وإنجاز مشروعات فلاحية كُبرى لمُضاعفة الرقعة المزروعة خاصة في المنتوجات الأساسية، حيث يتم التفويت فيها لاحقاً للشباب العاطِل عن العمل، كما يمكن الاستعانة به أيضاً في مشروعات الإسكان لخفض التكلفة وتمكين العائلات محدودة الدخل والفقيرة من الحصول على مسكنٍ لائقٍ للتقليص خاصة من مخاطر الأزمة الاجتماعية.
7. بناء المؤسّسات التنموية التي تُسانِد الوحدات الإنتاجية في رَفْعِ الكفاءة الإدارية والفنية والتسويقية، وربط سياسة هذه المؤسّسات بأهداف الخطة الوطنية العامة، وخلق علاقة مباشرة بين هذه المؤسّسات والقطاع الإنتاجي المُستفيد.
8. الرقابة والمتابعة المستمرة من قِبَل أجهزة الدولة على أعمال الشركات الكُبرى، لتفادي ظهور إي نشاط احتكاري مُعادٍ لشروط المُنافسة المحلية والأساسية لنجاح النظام الاقتصادي.
9. تقليص حجم النفقات العمومية من خلال دَمْج عدد من الوزارات وخفض رواتب وامتيازات الوزراء وكتّاب الدولة والمُستشارين، وتطبيق شعار الإدارة في خدمة القطاعات الإنتاجية والمجتمع وليس العكس.