الأخلاق النفعيّة والإزدواجية في السلوك الإنساني

الفِكر السّليم والمُعتَقد الصحيح والذي لا يخضع للنوازِع والغرائِز البهيمية هو وحده مَن سَيَصل إلى حقيقة السّعادة.

  • الأخلاق النفعيّة والإزدواجية في السلوك الإنساني
    كانط كان يؤكِّد على أن العقل وإنْ كان هو المُحرِّك والدَّافع نَحو إدراك السعادة

يقول الفيلسوف والروائي الروسي يودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821 - 1881) في رواية (مُذكّرات قَبْو) وهو يَصف العوالِم الداخلية للإنسان: "إن مأساة هذا الإنسان المُهان والحقود هي رغبته ووعيه في مستقبلٍ أفضل، وهي في الوقت ذاته ، إدراكه لاستحالة تحقيق ذلك ، حتى ذلك الحب الذي كان من المُمكن أن يُغيِّر فيه شيئاً، ويفتح له طريقاً نحو حياة سعيدة، ظلّ بطلنا يرفضه، مُفضِّلاً الإنزواء في قَبْوه، مسجوناً في كبريائه الجريحة، وعزَّة نفسه المُهانة، ونزعته الشريرة، وسخطه ومرارته".

مع بزوغ عصر النّهضة وفي خِضَمّ الصِراع من أجل الحقيقة، بَدأت ملامِح المَنهج الفلسفي بالتغيير مُتَّخدة من النّفس الإنسانية مادّة للبحث، فالوِعي يُمثّل أهم ركيزة للإنسان المُصلح، عليها يَستند ومنها يَستمدّ قوَّته من أجل إكمال مسيرته والتي لا تخلو من عقباتٍ لا ينجو منها إلا أهل الفكر الصحيح؛ وبالتالي إذا ما تمّ فَهْم حقيقة الذّات ومدى اختلافها وتبايُنها من شخصٍ إلى آخر سنستطيع حينها أن نرسُم صورة ذلك الوعي بكل تجلّياته. 

من أجل ذلك أوْلَت المدارس الفلسفيّة إهتماماً كبيراً بدراسة الظاهِرة الأخلاقية وما يترتَّب عليها من انعكاساتٍ سلبيّةٍ تبرز من خلال إزدواجية السلوك البشري، حيث قدَّم العديد من الفلاسفة أفكاراً ونظريات تُعرِّف وتُفسِّر هذه الظاهِرة وأسبابها وانعكاساتها السلبيّة على الأفراد والمجتمعات.  

إنّ الإزدواجية المُشار إليها في هذا البحث هي ليست ذلك السلوك الطبيعي والحال السويّة التي أساسها طبيعة خَلْقِ الله تعالى للنّفس البشريّة وامتلاكها الخلْقي لإتجاهين مُختلفين مِن النّوازِع، حيث نراها تتأرجَح بين الخير والشر، فتارة تنزلِق في سلوكها نحو مهاوي شيطانيّة، ولكنّها ما تَلبَث أنْ تَفيق وتتذكَّر لتعود نحو طريق الخير لتُكمِل مسيرتها الأخلاقية نحو مراتب الكمال؛ إنّما المُراد بالإزدواجية هو الخروج التّام عن الحدود المقبولة في النوازِع الإنسانيّة، فتراه يعيش التناقُضات السلوكية المُطلَقة في الأقوال والأفعال، وفي العقيدة والسلوك، تناقُض وتصادُم وهمجيَّة مُدمِّرة .

لقد كان الإنسان موضِع الدراسة بصفته الأساس والمصدر، فقد تمَّت دراسة أبعاد شخصيّته وميوله الغرائزيّة وعلاقاته مع باقي أقرانه ضمن حدود المجتمع الواحد، بل وحتى العلاقة مع باقي المجتمعات، ودور السلوك البشري في رَسْمِ شكل تلك العلاقات. وهذا السلوك، كما يعتقد الكثيرون، تؤثّر في صوغه عوامل مُتعدِّدة، أهمّها المُعتقدات والعقائد الدينيّة وما تقدِّمه من نُظُمٍ وقوانين ومُحدَّدات، ثمّ يأتي دور التراكُمات التراثية وما يَحمله التأريخ من أعرافٍ وعاداتٍ وتقاليد، والتي حينما تتجمَّع عبر عقودٍ من الزمن سيكون لها ثقلها في بلوَرة السلوك الأخلاقي للإنسان؛ بالإضافة إلى دور البيئة الإجتماعية والتربية الأُسَرِيّة وأثرهما في بناء السلوك الأخلاقي؛ وهذا ما أشار إليه الفيلسوف وعالِم النفس الأميركي جون ديوي (1859 – 1952م) في كتابه (قاموس جون ديوي للتربية) والذي يحوي مُختارات من مؤلَّفاته، أنّ السلوك هو: "تفاعُل بين عناصر الطبيعة الإنسانية والبيئية الطبيعية والاجتماعية".

ورغم أنّ الإنسان يمتلك قُدرات عظيمة في القراءة والمُراقبة والفَهْم والإدراك، لكنّه قد يتراجع في الكثير من الأحيان عن الإفصاح عن كامل مكنوناته ويتردَّد في الكشف عن حقيقة ما يعتقده ويؤمِن به، وذلك خوفاً من مواجهة المُخالفين له والإبتعاد عن الرفض المجتمعي الذي قد يواجهه، لذلك تراه يلجأ إلى السلوك الإزدواجي في التعامُل ويميل إلى التناقُض ومُخالفة الذّات والتلوّن كأسلوبٍ لإرضاء الآخرين ولكَسْبِ المنافِع على حساب الحقيقة والمبدأ.

يُعتَبَر الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط (470 ق.م - 399 ق.م) أوّل مَن رَسَم لهذا المفهوم أبعاده، وقال إنّ التربية الخُلقية هيَ أهمّ للإنسان من خُبزه وَثَوبه، بينما وَصَفَها السفسطائي ثراسيماخوس، في جمهورية أفلاطون، على أنّها مَحْض صنيعة بشريّة يفرضها أصحاب السلطة والقوَّة على شعوبهم البائِسة بُغية استغلالهم ومن ثمّ التّحكم بهم.

القوَّة في نَظَر ثراسيماخوس هي الحَق، وأنّ العَدالة هي مصلحة الأقوى؛ وذهب إلى هذا المنحى بعض الفلاسفة مُعتبرين الأخلاق خِدعة من إختراع الضُعفاء، وهو ذات الرأي للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 - 1900) حينما قال: إنّ الأخلاق اختراعُ الضّعفاء لتقييد الأقوياء، وأنّ قليلي الحيلة والذين لا يمتلكون المخالب والذين ليس لديهم أدنى وأبسط وسائل الصّراع هم فقط مَن يلجأون إلى التخفّي وراء سِتار الأخلاق من أجل كَسْبِ المَنافِع من أولئك الذين يمتلكونها، وهم الأقوياء.

إنّ النظريّة الأخلاقيّة عند سقراط  أساسها أنّ الفضيلةَ عِلمٌ والرّذيلة جَهْل، وأنّ هناك ترابطاً بين الفضيلة والمعرفة، فالإنسان بنظره لا يستطيع عمل الخير إلّا إذا كان يمتلك الإدراك والفَهْم العقلي لحقيقة ذلك الخير، فالخير والمعرفة حقيقتان مُتلازِمتان تكمل أحدهما الأخرى، فمَن يعرف الفضيلة ويُدرِك حقيقتها لابدّ من أنْ يُقْدِمَ عليها، ولا يمكن للإنسان أن ينتهج السلوك الأخلاقي إلّا حينما يكون قد أدركه عقلاً. لذلك وصف أبو الفتح الشهرستاني ( 1086م -  1153م) في كتابه المِلَل و النِحَل سقراط  بالحكيم الفاضِل الزاهِد ويقول فيه "نهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشَرْك وعبادة الأوثان، فثاروا عليه الغاغة وألجأوا ملكهم إلى قتله، فحبسه الملك، ثم سقاه السمّ وقضيّته معروفة".

لكنّ هذا الفَهْمَ الذي قَدّمَه سقراط قوبل بالرّفض والسُخرية، فالفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (1820 – 1903م) لا يجد أيّ ترابُط بين الأخلاق والمعرفة، مؤكِّداً أن العديد من العُلماء والفلاسفة يحملون الأفكار الأخلاقية لكنّهم لا يُطبِّقونها ولا يسيرون بنهجها، وعلى العكس نرى بعض العوام ممَّن لا يحملون الفكر الأخلاقي لكنّ سلوكهم ونهجهم أخلاقي، فعِلم الأخلاق بحدّ ذاته لا يستطيع أن يفرض سلوكاً مُعيَّناً على الإنسان.

وللفيلسوف اليوناني أَرِسْطُو ‏(384 ق.م - 322 ق.م) مبانيه وفلسفته الخاصة في الأخلاق والتي ينطلق بها من الواقع والحقيقة الملموسة والمُشاهَدة الحسيَّة، حيث تَمَحْوَرَت رؤيته في الأخلاق على منهجٍ يميل إلى حقيقة أنّ الحياة إنّما هي الخير الأسمى والذي مُرتكزه ومحوره الأساس "السعادة"، والتي اعتَبَرَها هي المقصد الأعظم والغاية القصوى، أما الكمالات والصفات الأخلاقية الأخرى فهي بالنسبة إليه ليست سوى وسائل لبلوغ تلك الغاية.

حتى جاء دور الفيلسوف الألماني أيمانويل كانط (1724 - 1804) ليُقدِّم الأخلاق على أساسٍ ميتافيزيقي وديني، مُعتَقِداً ألا يمكن تقديم فلسفة أخلاقية من دون الرجوع إلى الأبعاد الميتافيزيقية الدينية، فالأخلاق والعقيدة مفهومان مُترابِطان وألا يمكن بناء العقيدة بمعزل عن الأخلاق.  لقد اعترض كانط على نظرية أرسطو في الأخلاق مُبيِّنا أن الأخلاق لا يمكن لها أن ترتبط بميول ونوازِع إنسانية كالسعادة، وأنّ الإنسان الذي يطلب الدَّعَة والسعادة قد يجدها بطُرُقٍ عدَّة وهذه الطُرق قد لا تمثّل مبادئ أخلاقية.

كانط كان يؤكِّد على أن العقل وإنْ كان هو المُحرِّك والدَّافع نَحو إدراك السعادة، لكنّ النوازِع والرَغبات الإنسانيّة هي الأخرى تُحدِّد نوع السلوك الأخلاقي المُتَّبع، وحينما تكون الغرائِز الإنسانيّة مُتفاوِته ولا تخضع لضوابط مُحدَّدة فالمنهج الأخلاقي لأرسطو سيكون مُتعثّراً، كما يرى كانط، لذلك فالقيمة الأخلاقية لأيّ سلوك سيكون معيارها الحقيقي خلوّها من الرَغبة والشَهوات الذاتيّة.

فالخير الأسمى بنظر كانط هو الخير الذي لا يرتبط بأية منافِع ومصالح ورغبات شخصيّة، وأنّ الواجبات والضوابِط والنُظُم الأخلاقية هي المعايير الحقيقية والتي يجب مُراعاتها من أجل بلوغ أعلى مقامات السلوك الأخلاقي.

إنّ الأخلاق النفعيّة كما قدَّمها بعض المُفكِّرين والفلاسفة بشكلها النظري أنّها مَنهَج وسلوك يتَّخذ من مصلحة الفرد أو المجتمع هدفاً، وأن الغاية هي إدراك السعادة والتقليل من الشقاء فذلك هو الهدف الأسمى والغاية القُصوى. وأسَّس لهذا المنهج العديد من المُفكِّرين والفلاسفة وأبرزهم جيرمي بنثام (1748 – 1832م) الذي قدَّم منهج الأخلاق والسلوك النّفعيّ من خلال كتابه: (مُقدِّمة لأصول الأخلاق والتشريع)، ثم سارَ على هذا النهج الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل (1806- 1873م)، والذي ثبَّتَ مُعتقده هذا في كتابه: (مذهب المنفعة ).

قدَّم جيريمي بنثام الأخلاق والقوانين النفعيّة من خلال سبعة معايير ومُحدَّدات وهي: الشدَّة، المدَّة، اليقين، القُرب، الغَزارة، النقاء، والمدى، حيث يُمكن من خلال هذه المعايير قياس أيّ سلوك، نفعيٍّ كانَ أمْ غير نفعيّ. والمنهج النفعيّ يمكن تعميمه على المجتمع بأكمله لتكون الأفعال والسلوكيات الأخلاقية هي فقط تلك التي تُقدِّم السعادة والمنفعة.

لقد صاحَبَت ظهور منهج وفلسفة الأخلاق النفعيّة ردود أفعال من طبقةٍ واسعةٍ حيث كانوا يعتبرون هذا المنهج مُخالِفاً ومُتجاهِلاً للشرائع السماوية كونه لا يُميِّز بين الصواب والخطأ، بين الخير والشر. وفي المقابل كان أصحاب المنهج النفعي يعتبرون السعادة هي الغاية وأن جميع الوسائل مُتاحَة من أجل بلوغ هذا الهدف.

لكنّ الإشكال الذي وقع فيه أصحاب الأخلاق النفعيّة هو أنّه وبالعودة الى طبيعة النفس الإنسانيّة، وعندما تجتمع في الوجدان الإنساني تلك الأضداد والتناقُضات: الحبّ والكراهية، الوفاء والخِيانة، البغض والتسامُح، الظُلم والعَدل، كلٌّ يُحرِّك النّفس ويشدَّها ويحثّها للسير باتجاه مُعيَّن طلباً للسعادة واللذَّة الشهوانية، فمما لا شكّ فيه أنّ أحد هذه المُتناقِضات وإن أدركت بعداً مُعيَّناً للسعادة فإن ذلك قد يرافقه خسارة وتعاسة.


مِنْ بَعد ما تَقَدّم نقول إنّ الوعي هو المحور في مسيرة الإنسان، وعندما يغيب يغيب معه وَهْج وتَلأَلُؤ النفس الخيِّرة لِيَحلّ مَحلّها إله الأنا، ويبدأ منهج أنا ربّكم الأعلى، فعندها تكبر الأهواء وتتَّسع الآثام ويُصاب عندها الفكر بالتحجّر وتتحوَّل النّفس، تلك النِعمة الربّانيّة المُقدَّسة الجميلة، إلى مُحرِّكٍ وباعِثٍ للسير بمنهجٍ لا أخلاقيّ، نفعيّ، تقوده غرائِز بهيميّة وتشدّه عبادات وثنيّة، فيبدأ الإنسان يعيش حياة الإزدواجيّة بين الأقوال والأفعال، بين المبادئ والسلوك الواقعي، ويتعمَّق لديه هذا الإنفصام، ليكون الجانب المُظلِم في النّفس البشريّة مُنشغِلاً باتجاهاتٍ ومناهج لا أخلاقيّة تهدف إلى إدراك السعادة المُزيَّفة، سعادة لا تنتفع بها إلا طائفة مُحدَّدة، ولو كان على حساب تعاسة وآلام طوائف أخرى، وأوّل المُتضرّرين هي النّفس المُظلِمة، فعندما تكون الغرائِز الحيوانية والمَنافِع الشخصيّة هي الغاية وهي السعادة، فذلك يعني أن السلوك المُتبنّى وإن كان نفعيّاً لكنّه قَطْعاً غير أخلاقي.

واليوم نرى ونسمع العديد من القِيَم السياسيّة والمَناهِج الحزبيّة وهي تنتهج في العَلَن المسلك النفعيّ، تتَّخذ قرارات وتمضي بإجراءاتٍ قد تصل إلى حدّ الجرائم، تُمارِس أبشع صوَر الإضطهاد والتسلّط ضدّ مواطنيها لا لشيء إلا من أجل بضعة مقاعد في البرلمان أو مناصِب تعتقد أنها بذلك قد أدركت السعادة، لكنّها في الحقيقة وإن ملكت القوَّة والسلطة لكن ذلك على حساب تعاسة وبؤس وحِرمان واضطهاد شعوب، ذنبها أنّها وَجَدَت نفسها ترْزَحُ تَحْتَ وَطْأَةِ نُظُم استبدادية اتّخذت من السياسة عنواناً للسير بمناهج نفعيّة لا أخلاقية.

هذا السلوك اللاأخلاقي يتمحور حول المصالح الشخصية، مصالح أفراد أو أحزاب أو تيّارات أو نُظُم إستبداديّة بعيداً عن معايير العدل والإحسان والخير والمحبّة والإيثار، سلوك القمع ومنهج إسكات كل الأصوات الحرَّة يتقاطَع مع حقيقة الأخلاق النفعيّة، فهو يبتعد عن منفعة العامة ويُركِّز على النفعيّة الضيِّقة ، لينشأ ما يُسمَّى بـ: "الإرهاب السياسي" أو "الإرهاب الثوري"، فلسفة تحمل منهجاً لا يتوانى عن سَفْكِ دماء مُعارضيه واستباحة المُقدَّسات وهَتْك الحرمات.
لذلك فالإنسان ومِن أجل أنْ يبلغ حقيقة السّعادة عليه أولاً أن ينتهج مسلكاً أخلاقياً يقوده إلى بناء وعي ثقافي قوامه الصدق والوضوح، وعي لا يتردَّد ولا يتوانى عن البحث عن الحقيقة أينما كانت، وأنْ يكون تعامله مع جميع الرؤى والأفكار من مُنطَلق مُعتقداته الحقيقيّة وألا يكيل الأمور بمكيالين. لذلك فإنّ الفِكر السّليم والمُعتَقد الصحيح والذي لا يخضع للنوازِع والغرائِز البهيمية هو وحده مَن سَيَصل إلى حقيقة السّعادة.