سوريا.. انقلابات تربوية في الشّمال

لا شكّ في أنَّ تعدّد المناهج وتناقضها لن يسمح بالعودة إلى مرحلة التفاعل الاجتماعي والثقافي الذي أشرفت عليه الحكومة السورية في تلك المنطقة منذ أكثر من 40 عاماً.

  • سوريا.. انقلابات تربوية في الشّمال
    انقلابات تربوية في الشّمال السوري (أ ف ب - أرشيف)

تؤكّد المؤشّرات والمعطيات المتوافرة أنَّ عمل المدارس المتبقية في شمال سوريا وشمال شرقها يستند إلى مناهج وإدارات متناقضة في أهدافها ومعزولة عن بعضها البعض، على الرغم من أنَّ الغالبية العظمى من الكوادر التعليمية والإدارية العاملة اليوم فيها، جرى إعدادها وتقديم التدريب المستمر لها سابقاً في كليات التربية التابعة لجامعتي حلب والفرات.

هذه المناهج الَّتي تتصدَّر المشهد اليوم، بعد تغييب داعش والإعلان عن هزيمته في نهاية العام 2018، بحسب منظّمتي "اليونيسيف" و"الأونيسكو" التابعتين للأمم المتحدة، هي: منهاج وزارة التربية السورية، منهاج الإدارة الذاتية الكردية، ومنهاج تابع لفصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا والمقربة إليها. 

ويعدّ المنهاج التابع لفصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا والمقربة إليها نسخةً معدلةً عن مناهج وزارة التربية السورية، إذ تمَّ الاحتفاظ بكتب الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء، كما هي، في كلّ المراحل التعليمية، وتعديل كتب الدراسات الاجتماعية والتربية الدينية، من خلال حذف بعض النصوص والصور، بما يتفق والحسابات السياسية والعقائدية لتلك الفصائل والحكومة التركية. 

على سبيل المثال، تمَّ إلغاء تدريس مقرر التربية الوطنية بالكامل، على اعتبار أنه يتضمَّن صوراً للرئيس بشار الأسد ونصوصاً عن فلسفة حزب البعث العربي الاشتراكي ودوره في قيادة البلد. ويمكن أن نلاحظ أيضاً في كتاب التاريخ إزالة كلّ المفردات التي تشير إلى الطابع الاستعماري للسلطنة العثمانية في الوطن العربي.

 تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه المناهج تُطبَّق على اللاجئين السوريين، بقيادة الحكومة التركية وإشرافها. وقد جرى التوسّع في تطبيقها بعد غزو هذه الحكومة للجزيرة السورية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إذ أصبحت تُدرَّس في مدارس المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، إضافةً إلى جرابلس والباب وأعزاز وعفرين، وهي مدن سورية احتلّها الجانب التركي في السنوات الثلاث الماضية.

وبالتالي، يجب الاعتراف بأنَّ أطفالنا وأبناءنا في تلك المساحة الجغرافية ما زالوا يعيشون واقعاً مدرسياً مأزوماً، وتُطبَّق عليهم مناهج تعزّز عدم المساواة والفرز الاجتماعي، على الرغم من إخراج تنظيم داعش من تلك المنطقة.

في الشأن التربوي، لا شكّ في أنَّ تعدّد تلك المناهج وتناقضها لن يسمح بالعودة إلى مرحلة التفاعل الاجتماعي والثقافي الذي أشرفت عليه الحكومة السورية في تلك المنطقة منذ أكثر من 40 عاماً، إذ كانت المؤسسات التربوية المدرسية والجامعية في حالة نموٍّ وتطور، وتعمل وفق أهداف وطنية واضحة، وقلَّما توجد مدرسة لا يتكوَّن جهازها التعليمي من معلّمين ومعلّمات قادمين من جنوب سوريا وغربها ووسطها، مشكّلين ظاهرة اجتماعية وتربوية تعدّ تجسيداً عملياً لفلسفة العيش والعمل المشترك في سوريا. 

ويمكن القول أيضاً إنّ تشكّل تلك الظاهرة كان أمراً طبيعياً وضرورياً في سياسات الحكومة السوريَّة لتقليص الفجوة التعليمية بين أبناء البلد الواحد، إذ لا يمكن أن نتجاهل في الواقع تقدّم اهتمام أبناء أرياف حلب والجزيرة السورية بالأعمال الصناعية والزراعة بشكل أساسيّ على حساب قطاعات التوظيف الأخرى، وارتفاع حالات التسرب المدرسي والأمية في أرياف تلك المنطقة. 

 تمثّل هذه المناهج، بكلّ مسمياتها وأشكالها، انعكاساً أساسياً لطبيعة المعركة القائمة في الإقليم، وحالة التمزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه تلك المنطقة بعد خروجها عن سيطرة الحكومة السورية.

وبالتالي، لا يمكنها على المدى المتوسط والاستراتيجي أن تجلب الأمل، وتدفع المنطقة نحو المصالحة والسلام، لأنها، من جهة، أُعِدَّت خارج سلطة الدولة السورية، ووفق رؤى سياسية وحزبية وليدة وضيّقة. ومن جهة ثانية، أصبحت الجماعات المهنية المؤتمنة على تنفيذها تؤمن أيضاً بمشاريع وأفكار متناقضة، وتواجه صدمة عنيفة من القيم الجديدة والصراعات الاجتماعية والتغيرات السياسية غير المتوقعة وغير المؤكّدة. 

مناسبة هذا الكلام هي البيانات والإجراءات الأحادية والكيدية الصادرة أخيراً عن الإدارة الذاتية والحكومة التركية، والتي تنمّ عن مخالفات واضحة، بل جنايات سياسية - تربوية، باعتبار أنها تستخدم المدارس لبناء مواطنة وهُوية (كردية وتركية) تخالف الهوية الوطنية الجامعة لتلاميذنا وطلابنا في تلك المنطقة. وأكثر من ذلك، فهي تقوّض انتماءهم الاجتماعي والمصلحي لوطنهم الأم، وسأكتفي بالإشارة إلى بعضها: 

·تَوجّه الإدارة الذاتية إلى فرض لباس موحّد على التلاميذ والطلاب مع بداية العام الدراسي القادم. هذا الطرح يبدو شكلاً من أشكال تعزيز فكرة الانفصال العضوي التي ما زالت الإدارة الذاتية التي تأتمر أكثرية مكوناتها بأوامر الإدارة الأميركية، وفق تحالف ملتبس وغير مبدئي، تؤمن بها.

·افتتاح مدارس تحمل أسماء باللغة التركية، وتخضع لإشراف تركي شبه مباشر. على سبيل المثال، مدرسة "الوالي أحمد تورغاي إمام غيلار"، وهي مدرسة ثانوية افتُتِحت في مدينة جرابلس. ألا يعدّ ذلك تمهيداً لتأسيس احتلال وهيمنة دائمة على المنطقة؟

·تطبيق نظام التعليم الإلكتروني التركي في المدارس، بما يتيح للطلاب والمعلمين الوصول إلى المصادر التعليمية نفسها التي يستخدمها الطلاب والمعلمون في المدارس التركية الرسمية واستخدامها، فضلًا عن إجبار المدارس على وضع العلم التركي، إلى جانب علم ما يُسمى بالمعارضة، على "الجلاءات" التي تُعطى للتلاميذ في نهاية العام الدراسي.

هذه المسألة ليست مسألة ثانويّة أو تقنيّة، بل تقع في جوهر النهج الاستبداديّ الذي تمارسه الحكومة التركية على المؤسّسات السورية في تلك المنطقة. 

·إنشاء 3 كليات في ريف حلب الشمالي تتبع لجامعة "غازي عنتاب" التركية، هي كلية العلوم الاقتصادية والإدارية في مدينة الباب، وكلية العلوم الإسلامية في مدينة أعزاز، وكلية التربية في مدينة عفرين، والتي سيُناط بها إعداد المعلمين، وخصوصاً معلمي اللغة التركية. 

هؤلاء، كما يبدو، سيكونون مسؤولين عن نشر اللغة والثقافة التركيّة بين تلاميذ المرحلة الابتدائيّة وطلابها حتى المرحلة الثانوية، وبالتالي حسم تموضعهم في الصّراع والبقاء في أزمة هُوية وانتماء.   

لا شيء يضمن مستقبل الأطفال وممارسة حقوقهم المدنية أكثر من التعليم والتحاقهم بالمدارس. لا شكّ في ذلك إطلاقاً، إلا أنَّ المشكلة الرئيسيّة تكمن في فرض تلك المناهج والإجراءات من دون موافقة الحكومة السوريّة، وخارج أيّ اتفاق أو تنسيق معها يضمن مستقبلاً أفضل لهؤلاء الأطفال. 

هذا الأمر يدفع إلى التساؤل عن مصيرهم، ما دامت عملية تعليمهم وإدارتهم تتمّ في مدارس غير معترف بها وبمخرجاتها على المستوى الوطني والدولي، وعن دور تلك المناهج في الاستجابة لتوصيات الأونيسكو في مجال التعليم من أجل السلام، باعتبار أنها أصبحت تستخدم اليوم كأدواتٍ في الحرب الناعمة بين الحكومة التركية من جانب، والإدارة الذاتية من جانب آخر. وفي النهاية، ضد أيّ مشروع يعزّز انتماء هؤلاء الأطفال لوطنهم وتاريخه وذاكرته!

في خلاصة القول، قد يكون هناك خلاف بين السوريين حول فهم هذه الانقلابات وانعكاساتها وتقييمها، إلا أنها تقدّم أدلة قاطعة على مطامع الحكومة التركية الحالية والإدارة الذاتية في إخضاع أهالي تلك المنطقة نفسياً وعقائدياً لهما. ومن المؤكّد أيضاً أنها لن تدوم، ولن يكون باستطاعتها صياغة مستقبل أبنائنا في ظلِّ المخاض السياسي - الاقتصادي الجديد الَّذي تمرّ به تلك الجغرافيا، فالدّولة السّورية وسلطاتها الوزاريَّة بدأت تعود وتوسّع وجودها الرسمي الذي لم يغِب حقيقة في جميع المحافظات الشمالية؛ حلب والحسكة ودير الزور والقامشلي.

هي عودة شرعية وقانونية ستمهّد السبيل، من دون أدنى شك، لتمكين الناس في ديارهم وتشجيعهم على التغلّب على التوترات والصراعات الإيديولوجية وضمان مستقبل تعليميّ أفضل لأبنائهم.