المعادلة التي يجب كسرها في المدرسة

عنما نعيش في منطقة مُركَّبة من مكوِّنات مختلفة وكل مكوِّن هو جزء من ذاكِرة ومستقبل الآخر: عرب، كرد، سريان، آشور، أرمن، شركس، تركمان، يزيديون وغيرهم. كيف نُحقِّق التقارُب والوحدة عبر المدرسة؟

عنما نعيش في منطقة مُركَّبة من مكوِّنات مختلفة وكل مكوِّن هو جزء من ذاكِرة ومستقبل الآخر: عرب، كرد، سريان، آشور، أرمن، شركس، تركمان، يزيديون وغيرهم. كيف نُحقِّق التقارُب والوحدة عبر المدرسة؟ ماهي الممارسات التعليمية التي تساعد أطفالنا على التقدّم معاً والاعتراف باختلافاتهم؟ بشكلٍ أكثر وضوحاً إلى مَن يجب أن نرجع في تربية أطفالنا في ظلّ هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا؟

إن موجات البربرية والتطرّف النابِع من داخل البعض من أبنائنا ومؤامرات الفوضى والتقسيم المفروضة علينا من قِبَل بعض الدول تعطينا من دون شك حق المقاومة المُسلّحة، حتى لو عزَّزنا شكلاً آخر من أشكال الصواب السياسي. ولكن من وجهة نظر استراتيجية يجب أن تكون دافعاً لنا لتحسين مناهجنا وممارساتنا في التربية والتعليم من أجل الوطن والمواطن. في هذا الاتجاه؛ اختتم منذ مدة مؤتمر هام عن التطوير التربوي أعماله في الجمهورية العربية السورية برعاية الرئيس بشّار الأسد، إذ تمّ تبنّي عدَّة توصيات لتحسين القطاع التربوي وتجاوز آثار الهَجْمة عليه.

كل المجتمعات تمرّ بالتوتّرات، لكن المُتتِّبع لمسار الأحداث في العالم اليوم وخاصة في العالم العربي، بجناحيه الآسيوي والإفريقي، سيُلاحِظ أن هناك مخاوف على المستقبل وإغراءات للتراجُع نحو القوميات والأيديولوجيات العقائدية والأسطورية. هذا المناخ القاتِم يفرض من دون شك إعادة النظر في الرابطة الاجتماعية والثقافية بين المكوِّنات المجتمعية، وهي أطروحة في الواقع مركزية كل الدول تقوم بها من وقتٍ إلى آخر بهدف إيجاد طريقة لجعل الأمور والأهداف مشتركة دائماً. 

 بادئ ذي بدء، إن تحسين التربية هو الشرط الأساس لتقوية وإصلاح أيّ خلل في هذه الرابطة الاجتماعية. حيث أضحى هذا التحسين مُنعطفاً رسمياً في العديد من البلدان كما هي الحال مثلاً في تركيا و جنوب إفريقيا وبلدان جنوب شرق آسيا، وعلى رأسها سنغافورة هذا البلد الذي يتميَّز بالكونفوشيوسية ويعتمد في سياساته الاقتصادية والتربوية أيضاً على مبدأ المنافسة كان قد ألغى مند عقود مفهوم المناهج بشكله الكلاسيكي وقام بتزويد المعلّمين بدليلٍ مؤسَّساتي وطني يتضمَّن مشروعات ومُقاربات حول تدريس العلوم والأدب والتاريخ، وجعله إطاراً مُلزِماً لكل المؤسَّسات التعليمية الإبتدائية والثانوية بهدف مساعدة التلاميذ وطلاب من مكوِّنات البلد الأربعة )القوقازيين والصينيين والملايويين والهنود( على احترام قواعد العيش معاً والتحكّم في مستقبلهم.

 عندما تحلّ الأزمات مهما كانت الأسباب والسياقات السياسية والاجتماعية، فإنها تحلّ على جميع أبناء البلد الواحد ويحلّ معها الركود. من هنا لعلّ أهمّ ما يجب القيام به هو إعادة هيكلة "التنشئة الاجتماعية" وذلك من خلال تحسين المناهج وممارسات المجتمع التربوي وهو تحد كبير. إلا أن الدراسات  تظهر أهمية أن يتمّ العمل وفق منظورين مُتكاملين:

المنظور الأول يتعلّق ببناء المناهج: إن مسألة ما يجب نقله إلى التلاميذ والطلاب من معرفة ومهارات وقِيَم هو خيار اجتماعي بالمقام الأول، إذ لا يوجد قانون طبيعي يُملي أن يتمّ تدريس هذا بدلاً من ذلك، فتعليم الموسيقى مهم كتعليم الرياضات في أيّ مجتمع. وكما نعرف أن المعارف هائلة اليوم ومُتاحة والكثير من السلوكيات والقِيَم أصبحت هجينة تحت تأثير الهجرة  والعولَمة الرقمية، لذلك يجب أن نعطي أنفسنا طريقة للتفكير في ما يجب أن نختاره وننقله للأجيال بهدف خلق أرضية مشتركة، لأن لا شيء يجعلنا متأكدين في وجه هده الفوضى القائمة والانهيارات المُفاجئة من أن المدرسة على حق في تعليم ما تقوم بتدريسه اليوم. هذا التساؤل العميق كان أول مَن طرحه حقيقة قادة السياسة والتربية في الولايات المتحدة الأميركية زمن الحرب الباردة عندما لاحظوا تفوّق مناهج العلوم في الاتحاد السوفياتي سابقاً على مثيلتها في الولايات المتحدة الأميركية.

المنظور الثاني يرتبط بمسألة الحياة المدرسية: نظراً إلى أن المدرسة هي مخبر اجتماعي للتعلّم والعمل، فلا يجب إبقاؤها محافظة، تقدّم المواد والبرامج المدرسية كنسخ مُتماثِلة ومُصغَّرة عن المعارف المُتاحة من ثم تشجّع المنافسة على حفظها... هذا المبدأ عفا عليه الزمن، فالسياسيون والتربويون كما الطلبة وأولياء أمورهم، يعرفون اليوم أن سائر أبواب المعرفة المدرسية والمُقدّمة عبر الكتب أصبحت مُتاحة بشكلٍ حرٍ ومجاني عبر الإنترنت.

تظهر الدراسات الفرنسية والألمانية والأسترالية أن الأهم من أثقال المناهج وحشوها بنصوص وصوَر هو إعادة تركيز على الحياة المدرسية التي تسمح لنا بعلاج العديد من جوانب الخَلَل في المجتمع. هذه الحياة المدرسية تعتبر وسيلة لإعادة التأهيل والتجديد الاجتماعي، يمكن الوصول إليها من خلال (الأندية الموسيقية والفنية ،المسرح، المخيمات، المُنافسات الرياضية....آخ( التي تجمع الأطفال من خلفيّات وقدرات مختلفة لممارسة قِيَم مشتركة حيث يعيشون المزيد من العواطف وينفتحون نحو المزيد من القِيَم ويفكّرون بطريقة مختلفة.

أقول ونحن نحاول مواجهة التحديات الكبرى في منطقنا بشعاره "الغد" إن ما أثبته الدراسات والأبحاث والنظريات العلمية يستحق أن تكون له الأولوية في بناء الأسُس التي يجب أن تقوم عليها مؤسَّساتنا التعليمية ومناهجها وممارساتها. أيضاٌ علينا فعل الكثير في سبيل مساعدة أبنائنا على التمييز بين معتقداتهم والمعرفة وتحريرهم من الأفكار المُسبَقة والتيارات السوداوية لأنه كما قال ابن رشد "الجهل يؤدّي إلى الخوف والخوف يؤدّي إلى الكراهية والكراهية تؤدي إلى العنف". هذه هي المعادلة التي يجب علينا كَسْرها، ولكن في المدرسة!