عن السؤال العابر: كيف صحتك؟

لا يكاد يخلو بيتٌ لبنانيٌّ في خزانة أدويته من عقاقير الأعصاب والمهدئات ومضادات الاكتئاب والمُلَيَّنات والمُحفِّزات وغيرها، حتى يكاد لا يجتمع فردان إلى طاولة نقاش إلا كان المهدئ ثالثهما. 

في بلادٍ أخذت منها الحروب كل مأخذ، بينها من خارج الحدود الجغرافية وأخرى من خارج حدود الطائفة، وبين الأفكار المتناحرة بعضها ببعض، كان كل شيء أغلى من الإنسان وقيمة إنسانيته، على أرضٍ لطاما توالت عليها المعتقدات الدينية التي بشَّرت بحضارة الإنسان وقداسة وجوده.

ليس لبنان اليوم كلبنان الأمس، لا يشبه نفسه في شيء، هو يقف على مرآة الماضي ليرى شخصين مختلفين، وطنين مختلفين ومواطنَينِ لكلٍ منهما روحٌ مختلفة. نسمع في المجتمع اللبناني أخباراً لم نعهدها من قبل، معدلاتُ انتحار بين الأفراد لم يسبق لها مثيل، قتلٌ للنفس لأسبابٍ واهية، تارةً لضغوطٍ مادية وأخرى لرسوبٍ في امتحان، ما يبعث على الريبةِ الشديدة من حالةِ شعبٍ كان حتى الأمس يخوض حروباً ويعاني من مجاعات. تراه اليوم تثكله مشاكل صغرى فيحرق فلان نفسه، أو يرمي بنفسه عن صخرة في قعر البحر، أو تفاجئه نتائج امتحانات فيطلق على رأسه الرصاص أسوة بالذين يبصقون بمسدساتهم على وجه السماء، لأنّ قريباً لهم حاز على معدل ناجح في امتحان رسمي، كل هذا ينبئ أن لبنان وصحة أبنائه النفسية في خطر. 

تراكماتٌ لا تنتهي، دوامة الصراعات اللبنانية أنجبت ما نحن عليه اليوم، في وطنٍ يبحث عنه الراغبون بالعيش في عتم الأمم "بالسراج والفتيلة"، وطن هارب من نفسه إلى حيث لا يعلم أحد، لا هو في مؤتمر سيدر فيذهب المتمرسون بأخذ الدَّين من جيوب الدول التي يتقشف شعبها ليعيشوا هُمُ البذخ والترف ليحضروه، لا هو في موازنات "الشكَر بَكَر"، حيث تمرَّس الساسة بخداع العالم ولم تعد ألاعيبهم تنطلي على أحد، لا هو في أوكار الطائفية، لا تحت قببها ولا على الحبل والجرس، لبنان مخبوء في قلوب مواطنين يكتمون إيمانهم بالوطن الأبدي، نصير طهارة الكهف الجبلي والكوخ الساحلي، حيث لا فساد ولا صفقات ولا توازنات رعبٍ طائفية .

وللعجب أن من التحايا اليومية عند اللبناني "كيف صحتك"، وربما كان السائل يهتم بالسؤال عن صحة الجسد ولا ضير في ذلك، ولكن ماذا عن صحة الروح، أليست هذه الروح الشامخة التي ورثناها عن أجدادٍ حملوا الحرف على خشب الأرز الى أصقاع العالم؟ أليست هذه الروح اليوم مصابة بالعطب، تتسلل إليها أيادي اليأس والاكتئاب فلا يكاد يخلو بيتٌ لبنانيٌّ في خزانة أدويته من عقاقير الأعصاب والمهدئات ومضادات الاكتئاب والمُلَيَّنات والمُحفِّزات وغيرها، حتى يكاد لا يجتمع فردان إلى طاولة نقاش إلا كان المهدئ ثالثهما. 

من الذي يحاول أن يهزم روح هذا الشعب فتنهزم بذلك معنوياته ويرضخ بعدها لكل استفزاز؟! من الذي يحاول أن ينزع صورة القوة والتماسك عن وجه هذا الشعب؟! من الذي يفكِّك ويُشَتّت ويُضيِّع ويفرِّق ويثبِّط؟! إن هذا يحصل للشباب وللكبار للصغار للذكور وللإناث على حدٍ سواء، أنت اليوم تخاف أن تقول صباح الخير لمارٍّ على الشارع فلا تعجبه نبرة صوتك تخاف أن تعبِّر عن غضبك لِرَكنِ أحدهم سيَّارته في وسطِ الطريق أو على رصيف المارة تخاف أن تقول الحقيقة كاملة في أي نقاش وتخاف أن تكون على سجيَّتك من دون أي التزامات إننا نعيش في حقل ألغام ما أسرع أن ينفجر لأي حدث! ردّاتُ فعلٍ لا مبرَّرَ لها إن دلَّت على شيء تدل على حجم الضغط الكبير الذي يرزح تحته مواطن اليوم. 

وإن كان السؤال عن المسبب لهذا الحال معقد الأجوبة لكن السؤال عن أصحاب الحكمة أين هم لينهضوا بهذا الإنسان الممتعض من كل ما يجري حوله، أين القيادات الدينية والفكرية والأكاديمية والسياسية من كل هذا؟ أليسوا جميعهم مسؤولين في تثقيف الإنسان اللبناني وإزكاء روحه بالقوى الخيِّرة التي من شأنها أن تلهمه الطمأنينة والصبر في مقابل كل ما يجري؟!

أليست مسؤولية أهل الدين في لبنان أن يكونوا مكبِّر صوتٍ للخير في مقابل الشر والجمع في مقابل التفرقة والهدوء في مقابل الضجيج والطمأنينة في مقابل القلق، أليس من واجب أهل السياسة أن يكونوا بالمرصاد لكل مشكلةٍ وطنيةٍ فيعاجلوها بالحل؟! لا أن يستثمروها ويماطلوا فيها حتى موعد الانتخابات أيّاً كانت بلدية أو نيابية أو نقابية أو حتى مجالس الطلاب في الجامعات أليس من واجب أهل الفكر والإعلام أن يسلَّطوا الضوء على كل ما من شأنه أن يُحيي الإنسان ويشُدّ عزائمه من أجل الأفضل بدل فتح الأبواق للترهات والعصبيات التي تعمل في النفوس عمل النيران في الحطب.

إن الأوطان ليست مساحاتٍ جغرافية  مسيَّجة على طرفي الحدود بل هي كيمياء التفاعل بين الأفراد والأرض هي علاقة سنابل الحقل وقوى الروح، ثلاثية الأكُفِّ البيضاء والطحين ورغيف الخبز حكاية الإنسان، الذي يحمل قنديله في داخله لينير به العالم لأن شمسه تشرق من تلال روحه وتغيب وراء بحرها، تبقى سلامة نفسه وقوى الروح فيه كنزه الأغلى وسلاحه الأكبر في حربه كي لا يخسر إنسانيته، في مقابل توحش العالم ولا ينجح المفسدون بجرّه لمشابهة الفساد ولا المصرّون على دفعه لليأس فلا يتعب من التقاط وطنه المنحدر بكل قواه ولو بأطراف أسنانه رغم رؤيته للآباء الوطنيين "يأكلون الحصرم" والأبناء يضرسون.