الوطن المُحَرَّم

قد يتراءى للمُسافِر وهو يجرُّ حقيبته فرحاً وحُزناً في آن، يُقلِّب نظراته بين وراء يجتمع فيه الأهل وأشياء القلب، وأمام ينتظره فيه المستقبل  أو هذا على الأقل ما يعتقده"، إنها رحلة قصيرة تنتهي بإنهاء الوضع الراهِن ويا للوضع السَّرمدي الراهِن.

لإغتراب مأساة كُبرى على الهوية والديموغرافيا اللبنانية

عندما تخرج من لبنان فإنك لن تعود إليه مُجدَّداً أو على الأقل لن تعود إليه كما تعوَّدت أن تكون فيه، لن يقول لك أحد هذه الحقيقة الجارِحة لكن أحداً ما لا يستطيع أو لا يريد أن يُصدِّق أين وصلت الحال بمُغتربي لبنان الشهداء الأحياء على مذبح الفساد الوطني المُقدَّس.

قد يتراءى للمُسافِر وهو يجرُّ حقيبته فرحاً وحُزناً في آن، يُقلِّب نظراته بين وراء يجتمع فيه الأهل وأشياء القلب، وأمام ينتظره فيه المستقبل  أو هذا على الأقل ما يعتقده"، إنها رحلة قصيرة تنتهي بإنهاء الوضع الراهِن ويا للوضع السَّرمدي الراهِن.

أربعة عشر مليون لبناني في المهجر هذه إحدى الإحصائيات التي مررتُ عليها ولكن ليس الرقم ذات أهمية، بل الدلالة، فأكثر من ضعف لبنان يعيش خارجه وهذه مأساة يعمل الكثيرون من أهل السياسية على مَكيَجَتِها لإخفاء الكَدَمات الوطنية الظاهِرة للعيان على وجه المُغتربين ليس آخرها تغيير المُصطلح إلى مُنتشرين. 
فبحسب الوزير المُختصّ تبيَّن أن المُنتشرين كمُصطلحٍ يُعبِّر بُعمقٍ أكبر عن اللبنانيين خارج العشرة آلاف وأربعمائة وخمس وعشرين كيلو متراً مُربعاً، حيث أن المُنتشِر مُرتبط بأرضه وجذوره، أما المُغترب فلا. ويا لِمحاسِن اللغة العربية وكثرة نِعَمِها ومُرادفاتها على أهل السياسة حين تريد ان تُنعِمَهم بما يستطيعون من خلاله من كلمات تغيير الصورة.

إن الإغتراب مأساة كُبرى على الهوية والديموغرافيا اللبنانية، مأساة إجتماعية عائلية مناطقية يتمّ التعويض عنها بحوالاتٍ من الخارج خاصة في وضع المُغترب، حيث لا قانون عمل يحمي ولا عقود ولا التزامات، وأكثر اللبنانيين الموجودين في الخارج يدخلون شركات لا يعرفون فيها رواتبهم  ولا حقوقهم ولا واجباتهم، وحين يبدأ التذمّر تسمع الجُملة الشهيرة "ألف واحد بلبنان بيتمنّى يجي". 
أكثرية البلدان لا سفارات فيها وتلك التي أنعم الله عليها بسفارةٍ أو قنصلية تلعب دوراً لا يتجاوز دور المُختار في قرية، لا جاليات حقيقية لا رؤية واضِحة لا لوبي لبناني لا ارتباط اقتصادي أو أمني، لا شيء يجمع بالوطن إلا صَحْن الحمص بالطَّحينة وبعض الطائفية. 
بالرغم من النجاحات الكُبرى للمُستثمرين اللبنانيين في الخارج والإمكانات العظيمة لبعض رجال الأعمال، لكن هذا لا ينعكس في لبنان إلا في قصور ذات طوابق أعلى ومسابح أكبر، لا استثمارات صناعية أو تجارية أو أكاديمية أو حتى مالية تُذكَر. 
أما السواد الأعظم من المُغتربين فهم أصحاب عقول وخبرات وشهادات أكاديمية بل وطاقات شبابية كبيرة تستطيع إحداث تغيير حقيقي لو بقيت في لبنان، وهنا المغذى لبنان هو الوطن المُحرَّم ليس تدخله إلا من باب الطائفية والعصبية المناطقية أو تبقى مُعانِقاً صدر الغُربة إلى ما شاء الله، ما تبقَّى من لبنان مساحات مُورَّثة إن بالأرض أو بالسياسة، إقطاع مُقَنَّع بمُفردات اللغة العربية الفضفاضة حيث لا خطة وطنية واضحة لوقف نزيف الطاقات الشبابية، ولا حتى أكثر الحلول تواضعاً كخلق شبكات تواصل بين اللبناني المُغترب وحكومة وطنه، في غيابٍ كُلّي لإحصاءٍ شامِلٍ لأماكن تواجد اللبنانيين وظروف عيشهم وانعدام التتبّع الإداري بين المواطِن ودولته اللّهم إلا في ما استُحدِثَ مؤخراً من حق في التوجّه نحو صناديق الاقتراع، صناديق كان يحملها اللبناني الأول في سفره واليوم يعود فيها مُحمَّلاً من كل أصقاع الأرض.