"طوفان الأقصى"... صفوة نماذج نظريات التحرر الإنساني

النظام الدولي الذي تتحكم به مصالح القوى العالمية، بما يجعله عرضة للمساومات والصفقات، لن يقدم للشعوب ما يمكنها من التمتع بحقها في تقرير مصيرها ما دام هذا الحق لا يتقاطع مع توازنات القوى الدولية.

0:00
  • المقاومة استطاعت أن تنتصر على الواقع الدولي.
    المقاومة استطاعت أن تنتصر على الواقع الدولي.

بعد 467 يوماً من الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي الذي أعقب عملية "طوفان الأقصى"، انتزعت فصائل المقاومة في غزة اتفاقاً لوقف إطلاق النار وفق الشروط التي وضعتها كأطر حاكمة للمسار التفاوضي.

وبالتالي، صار من الضروري مقاربة ما أمكن لكلا الطرفين تحقيقه بما يمكِن في نهاية المطاف من تقديم رؤية تصليح لتقييم جدوى مقاومة شعب أعزل لجيش عسكري جرار يمتلك من القدرات والدعم الدولي ما يمكنه نظرياً من فرض هيمنته على محيط إقليمي يتجاوز في حدوده ما يعدّه حقاً طبيعياً له.

فالمعروف أن الواقع الإسرائيلي، بما يملكه من القدرات بالإضافة إلى الطموح وما يدّعيه من حقوق تاريخية، يسمح له بالسعي لبسط دولته المزعومة من النيل إلى الفرات حتى لا نقول إنه يستهدف التمدد أكثر من ذلك. 

في هذا الإطار، لن أحصر نطاق التحليل في محاولة تقدير أو تقييم الواقع بعد وقف إطلاق النار، انطلاقاً من فرضية العودة إلى أهداف كل من الطرفين حتى أقرر من المنتصر في هذه الحرب، إذ إن العودة إلى تصريحات نتنياهو التي كانت بمنزلة معجم للساسة والإعلام الإسرائيلي، والتي وضع من خلالها شروط انتصار تتوافق مع موازين القوة النظرية التي تميل إلى صالحه بشكل تام، بدءاً من تحرير الأسرى بالقوة وصولاً إلى القضاء على حركة المقاومة حماس وباقي الفصائل مروراً باستيطان قطاع غزة وخطة الجنرالات، ستؤكد أن المشروع الإسرائيلي المستهدف تحقيقه من خلال الحرب قد سقط بضربة قاضية عنوانها الصمود والإصرار على المقاومة. 

وإذا كان من الطبيعي أن يتطرق البعض إلى الأثمان الباهظة التي دفعتها المقاومة ثمناً لصمودها، إذ تعرض الشعب الفلسطيني في غزة لحرب إبادة بشرية من دون أن ننسى الدمار الذي لحق بأكثر من 80% من القطاع، فإن الحقيقة التي يُسلّم بها معظم المفكرين والخبراء الإستراتيجيين تؤكد عدم إمكانية تسييل عمليات القتل الممنهج للمدنيين وتدمير المباني والبنى التحتية المدنية في النتائج الإستراتيجية للمعركة. وبالتالي، يُفترض قراءة نتيجة المعركة الحالية بطريقة تضع الأهداف المحققة من قبل كلا الطرفين في ما يشبه الميزان لتقرير من استطاع أن يحقق نجاحاً أكثر من الآخر.

وعليه، يفرض علينا الواقع الحالي ضرورة مقاربة جدوى السياق التقليدي الذي اعتمدته المقاومة في ظل تمكن القوى الغربية بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، من فرض سرديتها لكيفية حفظ الحقوق وحق الشعوب في التحرر وتقرير مصيرها. ففي هذه المعركة، وجدت قوى المقاومة في غزة وكذلك خارج فلسطين نفسها مضطرة لمواجهة تحدٍ يتخطى في جوهره مجرد معركة عسكرية تقليدية لتواجه معركة تستهدف إلغاء الحق الشرعي والطبيعي للشعوب بالمقاومة.

فبعد أن تغنت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بتبنيهما حق الشعوب في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير، من دون أن ننسى إعلانهما الدائم عن الوقوف إلى جانب الشعوب المحتلة وتقديم كل ما يلزم من مساعدة لتحقيق هذا الهدف، جاءت الوقائع لتؤكد انقلاب الشرعية الدولية على هذا الواقع من خلال التفافها على ما طورته هذه الشعوب من وسائل وآليات أثبتت نجاعتها في أكثر من تجربة. فإذا كان الواقع الدولي المهيمن على الأمم المتحدة ومؤسساتها يدّعي دعمه للفعل المقاوم بشكل عام، فإن هذا الدعم سيظهر خاضعاً لمعيار مدى توافقه مع مصالح هذا الواقع.

وإذا كان المحتل في بعض الأحيان، كما في حالة الكيان الإسرائيلي المتعنت في فلسطين ولبنان يشكل إحراجاً لذلك الواقع، من خلال وحشيته وتغوّله وعدم اكتراثه بأي من مبادئ الشرعية الدولية وآلياتها، فإن هذا الدعم، للمقاومة، سيظهر مشروطاً ببقاء المقاومة فردية عفوية وسينزع الشرعية عن أي سياق منظم قد يثبت فاعلية، كحال حزب الله أو حركة حماس أو باقي الفصائل.

ولذلك، أظهر العدوان على غزة، والصمت الدولي الذي كان أقرب إلى التآمر، أن الفعل المقاوم المشرع والمقبول دولياً يجب أن لا يتخطى مستوى مواجهة العين للمخرز، أي الصبر وتحمل القتل والاكتفاء بالشكوى لدى الجهات الدولية من دون أي محاولة لإيذاء المحتل.

في هذا الإطار، حاولت القوى الدولية أن تجعل من الحق الفلسطيني في المقاومة أسير الشكوى إلى الأمم المتحدة أو محدوداً في أقصاه بانتظار ما يمكن لبعض الوسطاء أن يحققوه. فالواقع الذي حكم المرحلة التي تلت "طوفان الأقصى"، لناحية التصويب على فعل المقاومة الفلسطينية أو جبهات الإسناد على أنه يبرر السلوك الإسرائيلي أو على الأقل يساوي بين الطرفين في تحمّل المسؤولية يؤكد بما لا يترك مجالاً للشك ما سبق وذكرنا أنه مقبول كفعلٍ مقاوم.

فالتفهم الدولي للموقف الإسرائيلي المتعنت طوال جولات التفاوض السابقة بالإضافة إلى تسليم الوسطاء بدورهم المتنصل من القضية الفلسطينية كقضية عربية جامعة، قد أظهر أنه كان على المقاومة الفلسطينية بالإضافة إلى جبهات الإسناد أن تقاتل، بالإضافة إلى مقاومة العدوان، من أجل تأكيد حق طبيعي إلهي مكتسب بالمقاومة، لا يخضع لتأويل أو تحريف تسوق له قوى الأمر الواقع العالمية.

وعليه، لم يكن نجاح المقاومة الفلسطينية في فرض رؤيتها لاتفاق لوقف إطلاق النار بالشكل الذي تم الإعلان عنه مجرد إنجاز يمكن قراءته من خلال فرضية منع الكيان الإسرائيلي من تحقيق أهدافه المعلنة بفضل دماء وتضحيات الشعب الفلسطيني فقط، وإنما يتخطاه ليكرس في الوعي الجماعي الفلسطيني والعالمي وفي الضمير الإنساني أن "طوفان الأقصى" حق، وأن الشعوب المقهورة أو المحتلة تملك شرعاً الحق في تنظيم مقاومتها من دون أي التزام بالأطر التي تحددها أو تسمح بها قوى الأمر الواقع العالمي.

فالنظام الدولي الذي تتحكم به مصالح القوى العالمية، بما يجعله عرضة للمساومات والصفقات، لن يقدم للشعوب ما يمكنها من التمتع بحقها في تقرير مصيرها ما دام هذا الحق لا يتقاطع مع توازنات القوى الدولية، إلا في حال استند إلى مفهوم القوة الضرورية لتحقيقه.

فبعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر على الإبادة في غزة، استطاعت المقاومة أن تنتصر على الواقع الدولي وكرست من خلال صمودها ثوابت تتخطى ما يمكن أن يفصل في موضوع وقف إطلاق النار بين ما هو مقبول من قبلها وما هو مرفوض، لترتبط بالتأسيس لما ستعدّه الشعوب حقوقاً مكتسبة لا يمكن لقوى الأمر الواقع الدولية أن تشطبها.

فقد استطاعت المقاومة في غزة أن تعيد لفكرة التضامن المجتمعي والإنساني قيمتها بعد أن حاولت السرديات الغربية إفراغها من مضمونها من خلال التركيز على الفردانية وحسابات الربح والخسارة الشخصية المجردة من كل مفهوم إنساني. فالواقع الفلسطيني الحاضر اليوم ليعلن انتصاره رغم ما ألمّ به من خسارة على مستوى الأفراد والملكية الخاصة سيشكل في المستقبل نموذجاً صلباً ترتكز عليه أسس النظريات الحديثة للتحرر الإنساني الجماعي في المستقبل.      

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.