"خبريّة" نفق الحرية
يقول الأسير محمد صالح إن عملية نفق الحرية معجزة، لا بدّ من أن تدخلاً إلهياً ساعد أبطالها على إنجاز مهمتهم، فماذا حدث؟
في ذاكرة جميع الشعوب تتحول بعض القصص الحقيقية إلى أساطير، وتتحول الأساطير إلى ما يشبه الحقيقة.
من خلال التمازج بين الحقيقة والأسطورة، تعبّر الشعوب عن فعاليتها وأحلامها وقيمها العليا، ونضالها في سبيل تحقيق أهدافها. في بلاد الشام، اخترعنا مصطلحاً اسمه "الخبريّة"، وهو مشتقّ في العادة من خبر تضاف إليه بعض المبالغات، بحسب شخصية الراوي، يتناقله الناس من قرية إلى أخرى، ومن حيّ إلى آخر، قبل أن يصل إلى صيغته النهائية، والتي قد لا تروي ما حدث فعلاً، لكنها تحفظ رمزية الحدث وتحوله إلى عبرة فيها فائدة للمستمعين. قد يلتقط "الخبرية" حكواتي فيحولها إلى قصة تُروى في المجالس والمقاهي.
قبل عامين، استيقظنا على قصة هروب ستة معتقلين فلسطينيين من سجن شديد الحراسة والتحصين في فلسطين المحتلة، اسمه سجن جلبوع.
على مدى أيام تسمّر المشاهدون أمام الشاشات يتابعون مجريات المطاردة بين أبطال العملية، التي أُطلق عليها "عملية نفق الحرية"، وبين الجيش الصهيوني، الذي أُصيب بحالة من السُّعار من تأثير العملية. حفروا الأرض بمعلقة، وصنعوا نفقاً بطول عشرين متراً، وربما ثلاثين أو خمسين متراً، لا يهم فقد خرجوا. تجلت في عمليتهم وحدة النضال الفلسطيني، إذ جمعت العملية أسيراً من حركة فتح وأسرى من حركة الجهاد الإسلامي، وسرت أخبار عن وصول بعضهم إلى الأردن. على الأرض، انتهت العملية بإعادة اعتقالهم بعد أسبوع.
لكن، في الذاكرة بقيت العملية مع تفاصيلها، لتصبح "خبريّة" في وعي الجماهير، يخبرها الأجداد للأحفاد في ليالي الشتاء الباردة.
في أغلبية الخبريّات يُهزَم القوي المتجبر على يد شخص ضعيف، لكنه صادق الإيمان والعمل. في خبريّة نفق الحرية، استطاع ستة مقاومين عُزّل هزيمة نظام أمني معقد، لـ"دولة" و"جيش" لطالما وضعا نفسيهما في موقع القوة الأسطورة، وكأن التاريخ يصحح روايته، فلقد هزم داود جالوت، لكنه في هذه المرة داود العربي الفلسطيني، الذي بدّل مقلاعه بملعقة.
فتحت لنا عملية نفق الحرية باب التاريخ لنستعيد قصصاً مشابهة حفل بها تاريخ الحركة الأسيرة. ففي عام 1995، تمكّن الأسير محمد صالح من الهرب من سجن نفحة الصحراوي في اتجاه الحدود المصرية، مستخدماً مقص أظافر لقص الأسلاك الشائكة. أمّا الأسرى أمجد الديك ورياض خليفة وخالد شنايطة فاستخدموا ملعقة في حفر نفق هروبهم من سجن شطة في أيار/مايو 2003، واستطاعوا الاختفاء في الجبال سبعة شهور قبل أن تحاصرهم قوات الاحتلال في أحد كهوف بلدة كفر نعمة ليستشهد الأسير رياض خليفة ويُلقى القبض على رفيقيه. يقول الأسير محمد صالح إن عملية نفق الحرية معجزة، لا بد من أن تدخلاً إلهياً ساعد أبطالها على إنجاز مهمتهم.
لكل "خبريّة" هدف، فالحكاية تحمل في طياتها رموزاً وعِبَراً للمتلقي. في "خبريّة" نفق الحرية، تبرز إرادة الحرية والمقاومة كرمز رئيس. كيف يمكن لمعلقة أن تشق طريق ستة أشخاص إلى الحرية، لو لم تكن إرادتهم فولاذية؟ درس علّمه أبطال عملية نفق الحرية لكل أبناء الأمة: مواجهة المحتل والانتصار عليه عملية صعبة وشاقة، لكنها ممكنة إذا توافرت إرادة المقاومة واقترنت بالجهد والتصميم.
لتاريخ مواجهاتنا مع العدو قراءتان: قراءة رسمية انتهت في معظمها بالهزائم، وخلصت إلى مهادنة العدو والاستسلام له. أما قراءة المقاومة فانتهت غالباً إلى هزيمة العدو واندحاره. في كل مرة يحاول النظام الرسمي فرض قراءته، تخرج علينا ثلة من المقاومين لتعيد كتابة التاريخ المقاوم.
يوم اغتال العدو قيادات المقاومة في بيروت في عملية فردان عام 1978، رد المقاومون بعملية الشهيد كمال العدوان التي قادتها الشهيدة دلال المغربي. حروب وعمليات توجتها حرب تموز/يوليو بهزيمة العدو وتحرير أسرى المقاومة من سجون الاحتلال عام 2008، وصفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، التي تحرر بموجبها أكثر من ألف أسير فلسطيني. لم تنتهِ الحرب ولم نحرز النصر النهائي بعد، لكن المقاومة ما زالت مستمرة في معركة سيف القدس، وفي جنين ونابلس وطولكرم.
كتب زكريا الزبيدي ومحمود ومحمد العارضة ومناضل نفيعات وأيهم كممجي ويعقوب القادري قصتهم في صفحات التاريخ المقاوم؛ تاريخ انتصار قوة الإرادة على إرادة القوة الغاشمة. أصبحوا جزءاً من خبريّة مقاومة أخرى. قد يقول أحد الرواة إنهم تسلقوا سُوراً ارتفاعه أربعة أمتار وقفزوا عنه من دون أن يصاب أحد منهم. وآخر قد يتحدث عن ألف عسكري صهيوني حاصروهم ليتمكنوا من إلقاء القبض عليهم. تغيب أهمية التفاصيل وتكبر "الخبريّة" مع مرور الزمن، فتتحول إلى قصيدة وأهزوجة في ذاكرة الأمة.