"إسرائيل" والمقاومة.. والرهان على عامل الوقت!

قديماً قالوا: "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، وقد أثبتت التجربة أن الأظفار الفلسطينية خشنة وصلبة، ويمكنها أن تسبّب الكثير من الندوب في وجه كلّ من يناصبها العداء.

  •  خيارات المقاومة الفلسطينية في مواجهة هذه الحرب المجنونة أكثر صعوبة وتعقيداً.
    خيارات المقاومة الفلسطينية في مواجهة هذه الحرب المجنونة أكثر صعوبة وتعقيداً.

وهي تقترب من تجاوز شهرها التاسع عشر، تبدو الحرب الهمجية التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة تسير في الاتجاه نفسه، وبالوتيرة نفسها، إذ يستمر "جيش" الاحتلال في الاعتماد على قوة النيران الهائلة التي توفّرها له آلة حربه الحديثة، والتي لا يلوح في الأفق القريب أنها على وشك النضوب أو النفاد، حيث تتواصل إمدادات السلاح الأميركي بأنواعه كافة في الوصول إلى "دولة" الكيان، مانحة إيّاه فرصة لا تُعوّض لمواصلة حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني المنكوب والمظلوم.

على الجانب المقابل تبدو خيارات المقاومة الفلسطينية في مواجهة هذه الحرب المجنونة أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ إنها ما زالت تعتمد على ما تبقّى لديها من إمكانيات عسكرية محدودة، في ظلّ حصار مُطبق تتعرّض له منذ بداية الحرب، ناهيك عما تعرّضت له من تضييق ومنع من القريب والبعيد خلال الثمانية عشر عاماً الماضية، وهو ما حدّ كثيراً من قدرتها على الحصول على سلاح جديد أو حديث، حيث اعتمدت منذ ذلك الحين على الصناعات المحلية، والتي وإن لم تكن بجودة ولا كفاءة نظيرتها المستوردة من الخارج، إلا أنها استطاعت من خلالها سواء في المعارك السابقة، أو في معركة "طوفان الأقصى" أن تفرض معادلات كانت في بعض مراحلها حاسمة وفارقة.

في ظل هذه الظروف التي يبدو فيها العدو الصهيوني أكثر قدرة على التدمير والإيلام نتيجة ما يملكه من إمكانيات، وعلى التسبّب بمروحة واسعة من الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، ولا سيّما بعد أن لجأ منذ الثاني من آذار/مارس الماضي لإغلاق المعابر، ووقف إدخال المساعدات، وهو ما يُنذر بكارثة إنسانية بدأت معالمها في الظهور خلال الأسابيع الأخيرة، وفي ظل إصرار المقاومة الفلسطينية على مواصلة القتال بغضّ النظر عن الفارق في الإمكانيات، ورفضها المطلق لتقديم تنازلات قد تمسّ بجوهر القضية الفلسطينية برمّتها، وقد تؤدي في حال القبول بها إلى نسف كل إنجازات معركة "طوفان الأقصى"، وإلى تمكين العدو من فرض شروطه التي تبدو في بعض تفاصيلها تعجيزية ومستحيلة. 

في ضوء كلّ ذلك يظهر اعتماد الطرفين على عامل الوقت بصورة جليّة وواضحة، حيث يحاول العدو من جهة، والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى إظهار أكبر قدر من التماسك ورباطة الجأش والاستمرار في العضّ على الأصابع وعدم الصراخ أولاً، انتظاراً لمتغيّرات وتحوّلات قد تحدث في وقت ما، ويعتقد كلا الطرفين أنها ستصبّ في مصلحته، وتحقّق له جزءاً كبيراً من أهدافه. 

بنظرة متجرّدة يبدو رهان العدو على عامل الوقت أكثر منطقية، ويصبّ في صالحه من دون أدنى شكّ، إذ إنّ ما تحصده آلة الحرب الصهيونية من أرواح الفلسطينيين كلّ يوم، والذي تجاوز الخمسين ألف شهيد، وعشرات آلاف الجرحى، بات يشكّل ضغطاً هائلاً على عموم الشعب الفلسطيني، وعلى فصائل المقاومة أيضاً، إلى جانب ما يشكّله الحصار المطبق الذي حوّل حياة أكثر من مليونين وربع المليون من سكّان القطاع إلى جحيم، حيث يعاني معظم هؤلاء السكّان من المرض والجوع، بالإضافة إلى شعورهم بالخذلان من جميع دول العالم، وعلى وجه الخصوص من أمتهم العربية والإسلامية، والتي لم تستطع إيقاف المذبحة التي تُمارس بحقّهم، أو حتى كسر الحصار الظالم المفروض عليهم، والتخفيف من آثاره وتداعياته الكارثية.

كلّ ما سبق، إلى جانب عمليات التدمير الممنهجة التي يقوم بها "جيش" العدو ضد ما تبقّى من مناطق عمرانية في مدن القطاع، بالإضافة إلى توسيع ما يسمّيه "المناطق العازلة" على امتداد الشريط الحدودي مع الأراضي المحتلة عام 48، والتي في حال إنشائها كما هو مخطّط لها ستقلّص مساحة القطاع إلى أقلّ من النصف. كلّ ذلك يجعل عامل الوقت يصبّ في مصلحة العدو، وهو يبدو مقتنعاً بهذا الأمر أكثر من غيره، ويحاول إطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمّى خدمة لهذا الهدف، منتظراً أن يرفع الطرف الآخر راية الاستسلام، وأن يُذعن لكلّ الطلبات والشروط، وفي المقدّمة منها نزع سلاح المقاومة، والسيطرة الأمنية والإدارية على عموم قطاع غزة، بالإضافة إلى تنفيذ سياسة التهجير القسري، وعودة الاستيطان الصهيوني إلى أراضي القطاع كما كان قبل الانسحاب منه في العام 2005، أو ربما بشكل أعمق وأوسع.

على المقلب الآخر تبدو المقاومة الفلسطينية هي الأخرى تراهن على عامل الوقت، وتحاول رغم شدّة الضربات التي تعرّضت لها، وحجم الخسائر غير المسبوقة التي أصابت شعبها، وأثّرت على كلّ مناحي الحياة في قطاع غزة الصغير والمُحاصر، ألّا تصرخ أولاً، وهي تستخدم في سبيل ذلك كل ما بين لديها من إمكانيات، وهي وإن كانت إمكانيات محدودة نتيجة ما تعرّضت له من استنزاف على مدى الشهور الماضية، إلا أنها ما زالت تمكّنها حتى الآن على أقل تقدير من الصمود، ومن تحدّي آلة الحرب الإسرائيلية الهائلة، بل وتمنحها قدرة على الاستمرار في رفض كل ما يحاول الاحتلال وشركائه فرضه عليها من شروط مجحفة، تمسّ بصورة لا تقبل التأويل بحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال كباقي شعوب العالم، بل وتجعل من هذا الشعب الذي ناضل وضحّى طيلة أكثر من 76 عاماً، مجرّد شعب متسوّل يسعى للحصول على لقمة عيشه المغمّسة بالذل والهوان، ومانعة إياه من أيّ حقّ في مقاومة الاحتلال، وهو الحقّ الذي كفلته له كل القوانين الدولية، ونصّت عليه كل الشرائع السماوية.

تعتمد المقاومة في رهانها على عامل الوقت على جملة من المتغيّرات والتحوّلات المُتوقّعة، وهي أي المقاومة وإن كانت لا تملك أيّ ضمانات لحدوث تلك التحوّلات، وهو ما يجعل رهانها محفوفاً بمروحة واسعة من المخاطر، إلا أنّ تقدير الموقف لديها يمنحها نسبة مقبولة من نجاح ذلك الرهان، ولا سيّما في ظل وجود الكثير من المعطيات التي قد تشير إلى إمكانية حدوث تلك التحوّلات، وخصوصاً ما يتعلّق منها بالشأن الصهيوني الداخلي.

إحدى المتغيّرات التي تراهن المقاومة على حدوثها هو سقوط الائتلاف الحاكم في "إسرائيل"، وهو ما قد يؤدي في أحد تداعياته إلى توقّف الحرب، وانحسار العدوان، إذ إن معظم المعطيات المتوفرة تشير بصورة قطعية إلى أن هذا الائتلاف اليميني المتطرّف، وعلى رأسه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، يحاول إطالة أمد الحرب خدمة لأهدافه الخاصة، بعيداً عن مصلحة "الدولة"، أو استعادة الأسرى لدى فصائل المقاومة، بل إن نتنياهو شخصياً يرفض وقف الحرب لأهداف بعيدة تماماً عمّا يعلنه عبر وسائل الإعلام، وهو يحاول التهرّب من استحقاقات اليوم التالي لتوقّف العدوان، والتي قد تكلّفه مستقبله السياسي، وتُلقي به خلف قضبان السجن نتيجة قضايا الفساد المتهم بها.

هذا الاحتمال وارد الحدوث في ظل الخلافات العميقة التي تضرب المجتمع الصهيوني بشكل عامّ، والذي يشهد انقساماً عمودياً وأفقياً بين شرائحه المختلفة، وفي ضوء التباينات الكبيرة بين الائتلاف الحاكم وجزء من المؤسسة الأمنية والقضائية بشكل خاص، والتي شكّلت قضية إقالة رئيس الشاباك "رونين بار" أحدث فصولها وربما أشدّها خطورة.   

متغيّر ثانٍ تنظر إليه المقاومة الفلسطينية وعلى وجه الخصوص حركة حماس بترقّب واهتمام، وهو يتعلّق بالموقف الأميركي من استمرار الحرب، ولا سيّما بعد الحديث عن إمكانية عودة اللقاءات التي جمعت سابقاً بين مبعوث ترامب لشؤون الأسرى "آدم بوهلر"، وبين ممثّلين عن الحركة، والتي تشير بعض التسريبات إلى وجود رغبة أميركية في استئنافها من جديد، بهدف التوصّل إلى صفقة جزئية يُفرج بموجبها عن الجندي "عيدان ألكسندر" الذي يحمل الجنسية الأميركية، إلى جانب أربعة آخرين من الجنود القتلى الذين تنطبق عليهم المواصفات نفسها.

متغيّرات أخرى ترى المقاومة أنها ستصبّ في مصلحتها مع مرور الوقت، ومنها حالة الإجهاد التي يمر بها جنود "جيش" الاحتلال، وامتناع جنود الاحتياط عن الالتحاق بفرقهم القتالية، إلى جانب العرائض التي يوقّع عليها المئات من الجنود والضباط، والتي يطالبون فيها بوقف الحرب واستعادة الأسرى من خلال صفقة شاملة، إضافة إلى حراك أهالي الأسرى، والذي يمكن أن يشكّل ضغطاً إضافياً على الحكومة الإسرائيلية وعلى نتنياهو بصورة خاصة، ولا سيّما بعد الاتهامات التي وجّهها الكثيرون منهم لمسؤول ملف الأسرى الجديد "رون ديرمر"، والذي عيّنه نتنياهو في هذا الموقع خصيصاً لعرقلة أيّ صفقة محتملة بحسب ما تقول الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية. 

على كل حال، وبما أن الرهان على الوقت أصبح كما أسلفنا خياراً معتمداً لدي طرفي المواجهة، مع أن تبعات هذا الرهان قد تبدو خطيرة وغير مأمونة العواقب ولا سيّما على الطرف الفلسطيني، والذي تبدو رهاناته أكثر تعقيداً، وهي تقترب من أن تكون مغامرة مكلفة للغاية، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى حجم الخسائر الكبيرة التي يدفعها الشعب الفلسطيني كل يوم، بل كل ساعة وكل دقيقة.

وبالتالي فإن البحث عن حلول إبداعية وعاجلة لإنهاء العدوان، ووقف شلال الدم، والحد من الخسائر المادية في البنى التحتية والخدمية، يبدو مطلوباً، بل وأكثر أهمية من الرهان على متغيّرات قد تحدث، وقد لا تحدث.

صحيح أن خيارات الفلسطينيين محدودة وصعبة في ظل التعنّت "الإسرائيلي" الواضح، والموقف الدولي والعالمي المنحاز للعدو، وصحيح أن ما تعرّض له الشعب الفلسطيني من خذلان من أشقّائه وإخوانه قد أفقده الكثير من عوامل القوة لديه، إلا أن ما يملكه هذا الشعب ومقاومته الشريفة من إمكانيات وخيارات يمكن لها أن تشكّل منعطفاً مهماً على طريق المواجهة مع المحتل، وهي بحاجة فقط لمن يفعّلها، ويصوّبها في الاتجاه الصحيح. 

قديماً قالوا: "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، وقد أثبتت التجربة أن الأظفار الفلسطينية خشنة وصلبة، ويمكنها أن تسبّب الكثير من الندوب في وجه كلّ من يناصبها العداء، أو يعتدي على شعبها، هي فقط بحاجة لأنّ تُوجّه في الاتجاه الصحيح، وأن تُهيّأ لها البيئة المناسبة للانطلاق، بعيداً عن الاجتهادات الخاطئة، والمواقف العشوائية والانفعالية.  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.