هل يستطيع ترامب شن كلّ الحروب التي يلوّح بها؟
رغم ما يمكن أن تفرضه سياسات ترامب من أزمات، إلا أنّ جميع المؤشرات تدلّ على أنه سيضطر في المدى المنظور إلى التراجع عن الكثير من التهديدات التي أطلقها، والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى البيت الأبيض أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من التهديدات طالت معظم دول العالم. تراوحت هذه التهديدات بين الاحتلال كما حدث مع بنما وغرينلاند، إلى العقوبات الاقتصادية والرسوم الجمركية التي نالت كندا والمكسيك وكولومبيا والصين، وتهدّد دول الاتحاد الأوروبي، والتهجير إلى دولة أخرى للاجئين في الولايات المتحدة أو الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، أو الحرمان من المساعدات الخارجية التي وصلت حدّ الحديث عن التوجّه لإنهاء عمل وكالة التنمية الدولية الأميركية USAID. يمكن تلخيص سياسة ترامب الخارجية بجملة واحدة "إدفع تسلم".
هل تستطيع الولايات المتحدة خوض كلّ هذه الحروب؟ سؤال يكتسب شرعيّته مما حدث في العالم خلال السنتين الأخيرتين. وضعت الولايات المتحدة ثقلها الاقتصادي والعسكري ومعها قدرات حلف الناتو لدعم نظام زلينسكي في أوكرانيا، والعدو الصهيوني في غزّة لكنها لم تستطع في الحالتين تحقيق النصر المأمول، بل وعلى عكس المتوقّع وجدت نفسها مضطرّة للتفاوض مع تنظيمات تصنّفها إرهابية مثل حماس وحزب الله، وترسل أرفع مسؤوليها لتقديم التنازلات أملاً في إيقاف الحرب في لبنان وغزّة.
على الجانب الاقتصادي، ما كاد ترامب يعلن عن نيّته استثمار 500 مليار دولار في مجال الذكاء الاصطناعي، حتى جاء الردّ الصيني من خلال شركة DeepSeek التي تسبّبت بخسائر ضخمة لشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية حيث بلغت خسائر شركة نافيدا نحو 16% من قيمة أسهمها. يضاف إلى ما سبق ما حقّقته الصين في مجال الطاقة إذ يتوقّع أن تصل في العام 2030 إلى المركز الأول عالمياً في إنتاج الطاقة البديلة وخاصة طاقة الرياح.
تبدو الإجابة البسيطة والمباشرة، بالنفي. عالم اليوم تطوّر اقتصادياً وسياسياً إلى نقطة بعيدة عن الهيمنة الأميركية التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وترسّخت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين حقّق الاقتصاد الصيني نمواً في الناتج المحلي بنسب تفوق نسب نمو الاقتصاد الأميركي، إذ تشير الأرقام إلى أنّ الاقتصاد الصيني حقّق في الفترة ما بين 2013 – 2023 زيادة في حجمه بنسبة 67% (من 9.62 إلى 17.7 تريليون دولار) مقابل زيادة بنسبة 59.9% في حجم الاقتصاد الأميركي في الفترة نفسها (من 16.84 – 26.94 تريليون دولار) وتقدّمت دول مثل الهند لتحتلّ المركز الخامس على قائمة أكبر الاقتصادات العالمية، والبرازيل لتحتلّ المركز العاشر على القائمة نفسها. وتشير تقارير البنك الدولي إلى نمو أحجام التجارة العالمية خلال عام 2023 بنسبة 1.1% وذلك بسبب نمو اقتصاديات الدول متوسطة الدخل بقيادة الهند حيث ارتفعت نسبة التجارة الخارجية فيها بنسبة 6.4%، في حين تراجعت التجارة بين اقتصادات الدول المتقدّمة بنسبة 2.2%.
الولايات المتحدة كما يبدو، غير قادرة على حسم هذه الحروب سواء عسكرياً أو اقتصادياً، فالصين وكندا فرضت رسوماً جمركية جديدة رداً على الرسوم الأميركية، ورفضت كولومبيا استقبال طائرات المهاجرين، وأعلنت بنما والدنمارك رفضها لتهديدات ترامب، وجميع هذه الردود كانت متوقّعة فلماذا فتح ترامب هذه المعارك إن لم يكن قادراً على كسبها؟
اعتمد ترامب على سمعته خلال فترة رئاسته الأولى، من كونه مستعدّاً للذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة في تنفيذ سياسته وقرارته، وهو ينتظر ردّات الفعل ليبني عليها سياسته الحقيقية في المرحلة المقبلة. بعض الدول استجابت لضغوط ترامب كما فعلت المملكة السعودية بالحديث عن استثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، أو الدنمارك التي أعلنت وزيرة خارجيتها استعداد بلادها منح الولايات المتحدة ميزات أمنية واقتصادية إضافية في غرينلاند، مع تأكيدها رفض فكرة ضمّها إلى الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى يعتمد ترامب الضغط على الدول الأقل نمواً، واستغلال معاناتها الاقتصادية لفرض خيارات سياسية تصنع صورة انتصار للقوى الاستعمارية التي منيت بهزائم متتالية في حروبها الأخيرة. تعاني الدول الأقل نمواً من تراجع في نسب النمو الاقتصادي إلى 1.8% في العام 2024 مقابل 4.6% في العام 2023، وكذلك من تعاظم ديونها الخارجية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، إذ تبلغ في دولة مثل الأردن 114% وفي مصر 95%، وهاتان الدولتان تهدّدهما سياسة وقف المساعدات في حال عدم قبولهما استقبال اللاجئين الفلسطينيين الذين ينوي ترامب ونتنياهو تهجيرهم. إن دولة مثل الأردن تحتاج إلى استدانة 10 مليارات دولار خلال عام 2025 لسداد عجز ميزانيتها، من هذه المبالغ 3.5 مليارات دولار عبارة عن قروض بضمانات أميركية، وعدم الحصول على هذه القروض سيدخل الأردن في أزمة اقتصادية جديدة تزيد من استعصاء الوضع الاقتصادي في البلاد.
رغم ما يمكن أن تفرضه سياسات ترامب من أزمات، إلا أنّ جميع المؤشرات تدل على أنّ ترامب سيضطر في المدى المنظور إلى التراجع عن الكثير من التهديدات التي أطلقها، والجلوس إلى طاولة المفاوضات لأنّ الولايات المتحدة لن تكون بمنأى عن التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية التي ستنشأ من جرّاء هذه السياسات. من ناحية أخرى لن تمضي السياسات الترامبية من دون ردود قاسية من بعض الدول كالصين أو حتى من الاتحاد الأوروبي. لقد بدأت الخطوات الأولى لهذا التراجع من خلال التفاوض مع فنزويلا على تصدير نفطها إلى الولايات المتحدة، وكذلك تعليق فرض الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك لمدة شهر.
في مواجهة سياسات ترامب لا بدّ للدول من الصمود والبحث عن مصادر جديدة للنمو الاقتصادي، واتخاذ إجراءات مضادة تجاه التعامل بالدولار، مما ينقل الأزمة إلى الملعب الأميركي ويدفع الولايات المتحدة إلى المزيد من التراجع عن السياسات التي تحاول فرضها على هذه الدول.