من هجرات الفقراء إلى هجرة النخب: مفارقة المشروع الصهيوني
يتجلّى التحول داخل المجتمع الإسرائيلي اليوم في صعود معدلات الهوس الديني، والذي لم يعد مقتصراً على الخطاب السياسي بل امتد إلى مشاريع عملية تتعلق بالعقيدة اليهودية القديمة.
-
الهجرات الأولى: الفقراء في المقدمة.
حين بدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن قادة الحركة الصهيونية يعوّلون على الأثرياء أو البورجوازيين اليهود في أوروبا الغربية، فهؤلاء كانوا مندمجين في مجتمعاتهم، مستفيدين من الثورة الصناعية والحقوق المدنية الجديدة. بل إن كثيراً منهم عارض المشروع الصهيوني خوفاً من اتهامه بعدم الولاء لدولته، لذا كان المهاجرون الأوائل من الفقراء المعدمين في روسيا القيصرية وبولندا ورومانيا، ممن عانوا من المذابح (Pogroms) والتمييز.
ومع ذلك، استطاعت الصهيونية أن تحوّل هؤلاء الفقراء إلى مادة بشرية لبناء مشروع استيطاني جديد، سرعان ما أخذ في التمدد بدعم غربي وأوروبي مباشر؛ ومع مرور العقود، سوّقت "إسرائيل" لنفسها باعتبارها "واحة علمية" و"حديقة متقدمة" وسط صحراء الشرق الأوسط المتخلّفة. صورة وُظفت بكثافة في الإعلام الغربي لتبرير تفوقها العسكري والتكنولوجي على محيطها العربي.
لكن هذه الصورة اللامعة بدأت تتصدع من الداخل، فالمجتمع الإسرائيلي الذي تأسس على قيم التحديث والتعليم يتعرض خلال العقدين الأخيرين لعملية تفكك بطيئة، فأكثر من 13% من الإسرائيليين المتعلمين باتوا يهاجرون إلى الغرب خلال العشرين عاماً الماضية، بينما تضاعف نفوذ الحريديم الذين يشكّلون اليوم قرابة 14% من السكان، مع توقعات بأن يصلوا إلى ربع المجتمع بحلول 2050؛ في المقابل، تعلن مراكز أبحاث إسرائيلية أن نسبة المشاركة في سوق العمل بين الحريديم متدنيّة للغاية، ما يزيد الأعباء الاقتصادية على الدولة.
هذا التحول أثار تحذيرات من داخل "إسرائيل" نفسها، إذ وصف رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك عام 2010 ما يجري بأنه "تدهور نحو دولة ثيوقراطية"، بينما حذّر يوفال نوح هراري، المؤرخ الإسرائيلي المعروف، من أن استمرار هجرة العقول المتعلمة يهدد بتجفيف مصادر القوة التي تميّز "إسرائيل" تكنولوجياً واقتصادياً.
هكذا، فإن "الواحة العلمية" المزعومة في قلب المنطقة بدأت تتآكل من الداخل، وتتحول تدريجياً إلى مجتمع تخترقه الأفكار الرجعية المتعصبة.
الهجرات الأولى: الفقراء في المقدمة
العلياه الأولى (1882–1903): جاءت أساساً من روسيا وبولندا ورومانيا، وكان معظم المهاجرين فلاحين بسطاء أو عمالاً فقراء، لم يمتلكوا رأس مال، واعتمدوا على دعم جمعيات خيرية يهودية مثل "أحباء صهيون"، وعلى تمويل البارون إدموند دي روتشيلد الذي أسس مستعمرات زراعية.
العلياه الثانية (1904–1914): تميزت بالشباب المثاليين المتأثرين بالأفكار الاشتراكية، وجاؤوا من روسيا بعد الثورة الفاشلة عام 1905، هؤلاء لم يكونوا من طبقة الأغنياء، بل من العمال الفقراء، أسسوا لاحقاً "الكِيبوتسات" كمزارع تعاونية.
العلياه الثالثة والرابعة (1919–1929): بعد الحرب العالمية الأولى، زادت الهجرة من بولندا وروسيا، لكن الطبقة المهاجرة هنا بدأت تضم صغار التجار والحرفيين، أما الأغنياء ففضلوا الهجرة إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا.
العلياه الخامسة (1933–1939): مع صعود النازية، هاجر إلى فلسطين عشرات الآلاف من ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وقد كانوا أكثر تعليماً، وينتمون إلى الطبقة الوسطى، لكنهم لم يكونوا النخبة الاقتصادية الأوروبية.
اللافت أيضاً، أنه رغم كل الدعاية التي أحاطت بمشروع الدولة العبرية، ما زال نصف يهود العالم تقريباً يعيشون خارج فلسطين المحتلة. فإجمالي اليهود اليوم يقدَّر بحوالي 15.8 مليون، منهم ما يقارب 7.1 ملايين فقط في "إسرائيل"، بينما يتوزع الباقون بين الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية.
والأهم أن هؤلاء لم يقبلوا الجنسية الإسرائيلية المفتوحة أمامهم بموجب "قانون العودة"، في دلالة على أن المشروع الصهيوني، الذي بُني على فكرة "الوطن القومي لكل اليهود"، لم ينجح في استقطابهم جميعاً، بل ظل كثير منهم يفضلون المجتمعات الغربية حيث فرص العيش والاستقرار أكبر.
بناء جيل جديد متعلم
رغم فقر المهاجرين الأوائل، خلق مشروع الاستيطان المدعوم أوروبياً مؤسسات تعليمية قوية في فلسطين، إذ تأسست الجامعة العبرية في القدس عام 1925، ومع مرور العقود أصبح أبناء هؤلاء الفقراء أطباء ومهندسين وعلماء وضباط جيش. أي أن المشروع الإسرائيلي أنتج طبقة جديدة من النخب المتعلمة خرجت من رحم القاع الاجتماعي القادم من أوروبا الشرقية.
ظاهرة "الييريدا" – الهجرة العكسية
منذ قيام الدولة العبرية عام 1948، وُجد تيار صغير من الإسرائيليين المتعلمين يهاجرون إلى أميركا الشمالية وأوروبا بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل، وأوضاع أكثر أمناً، خاصة في ظل الأوضاع السياسية المستقرة نسبياً، والتي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الظاهرة اتسعت في العقود الأخيرة.
يمكن القول إنه بالتدريج بدأت تتحول الظاهرة من حالات فردية إلى تيار اجتماعي ملحوظ، ففي الثمانينيات والتسعينيات، انتقل آلاف العلماء والمهندسين الإسرائيليين إلى وادي السيليكون والجامعات الأميركية، حيث وجدوا بيئة أكثر خصوبة للإبداع والتطور.
وبعد عام 2000، شهدت الظاهرة دفعة جديدة مع اندلاع الانتفاضة الثانية وتدهور الوضع الأمني، وتصاعد الأمر بمرور الوقت، فقد ازدادت الضغوط الداخلية من غلاء المعيشة وأزمة السكن إلى تصاعد النزاع بين المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن تراجع صورة "إسرائيل" عالمياً بسبب حروبها المستمرة، الأمر الذي دفع أعداداً متزايدة من الإسرائيليين إلى التفكير بالهجرة العكسية والبحث عن مستقبل خارج فلسطين المحتلة.
أرقام ما بعد "طوفان الأقصى" تكشف عمق الأزمة
شكّلت عملية طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة تحول مفصلية في الوعي الإسرائيلي، ليس فقط عسكرياً وأمنياً بل اجتماعياً أيضاً؛ فبعدها مباشرةً بدأت تظهر أرقام صادمة حول هجرة الإسرائيليين إلى الخارج.
ففي عام 2024، غادر نحو 82,700 إسرائيلي لفترات طويلة، مقارنة بمتوسط 36,900 فقط في السنوات 2018–2022، أي أن الرقم تضاعف تقريباً في أعقاب العملية.
الأزمة تبدو أوضح في قطاع النخب الأكاديمية؛ إذ يعيش حوالى 10% من حملة الدكتوراه الإسرائيليين في الخارج لفترات طويلة، وترتفع النسبة إلى 14% في مجالات الهندسة والعلوم، بينما تقل إلى 3.8% فقط في العلوم الإنسانية. هذه المعطيات تشير إلى نزيف في الموارد البشرية التي يُفترض أنها عماد المشروع الصهيوني.
وحتى على مستوى الوعود بالعودة، تظهر الأرقام فجوة مقلقة، فبينما يصرّح 61% من المهاجرين عند مغادرتهم بأنهم ينوون العودة، إلا أن النسبة تنخفض إلى 16% فقط بعد سنوات في الخارج، ما يعني أن الغالبية العظمى تستقر بعيداً عن فلسطين المحتلة.
الأمر لا يتوقف عند حدود التعليم والأكاديميا، بل يطال قلب الاقتصاد الإسرائيلي، أي قطاع التكنولوجيا الفائقة، ففي عام 2024 وحده، خسر هذا القطاع نحو 5,000 موظف، وهو أول تراجع منذ عقد كامل، في وقت يُعتبر فيه عصب الاقتصاد الإسرائيلي.
الأكثر دلالة أن "إسرائيل" سجّلت للمرة الأولى منذ 2009 تقريباً هجرة صافية سلبية؛ أي أن عدد المغادرين فاق عدد العائدين. ففي الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 وحدها، تم رصد نحو 23,000 مغادرة طويلة الأمد، مع انخفاض واضح في أعداد العائدين، وهو ما يعكس أزمة بنيوية تتعمق بفعل تداعيات "طوفان الأقصى" والحروب المستمرة.
الهوس الديني: من المختبر إلى البقرة الحمراء
يتجلّى التحول داخل المجتمع الإسرائيلي اليوم في صعود معدلات الهوس الديني، والذي لم يعد مقتصراً على الخطاب السياسي بل امتد إلى مشاريع عملية تتعلق بالعقيدة اليهودية القديمة.
من أبرز الأمثلة، قصة الأبقار الحمراء التي استوردتها "إسرائيل" من الولايات المتحدة عام 2022، في إطار مخططات جماعات "أمناء جبل الهيكل" لإقامة طقوس الذبح والحرق، والتطهّر من "نجاسة الموت"، إذ ينظر الفكر التوراتي إلى مجرد لمس الميت أو الوجود في مكان به جثة على أنه مصدر للنجاسة القصوى، وتلك النجاسة لا تُمحى إلا برش رماد البقرة الحمراء الممزوج بالماء على الجسد، وفق ما جاء في سفر العدد (الإصحاح 19).
هذا الاعتقاد مرتبط بفكرة أن الموت هو نتيجة مباشرة لخطيئة آدم الأولى، أي العصيان الذي أخرج البشرية من حالة الخلود إلى حالة الفناء، لذا ظلّ غياب "البقرة الحمراء" عقبة أمام اليهودية الطقسية، ما جعل بعض الحاخامات يصفون المجتمع اليهودي بأنه "نجس بالكامل" حتى عودة تلم الممارسة "التطهريّة".
هذه الطقوس المتعلقة بجلب الأبقار الحمراء و"فحصها اليوم بدقة للتأكد من مطابقتها للمواصفات"، يُنظر إليها باعتبارها خطوة تمهيدية لبناء "الهيكل الثالث"، وهو ما يثير مخاوف من تصعيد ديني-سياسي بالغ الخطورة.
الفكرة أن إدراج مثل هذه المعتقدات ضمن أجندة علنية يعكس مدى تغلغل النزعة الدينيّة المتعصبة المهووسة في مجتمعٍ كان يُسوّق نفسه يوماً كـ"واحة للعقلانية" في المنطقة.
المفارقة التاريخية
تكمن المفارقة الكبرى في أن المشروع الصهيوني الذي تأسس على استجلاب فقراء اليهود من أوروبا وإعادة توطينهم في فلسطين، قد أنشأ خلال قرن طبقة جديدة من المتعلمين والعلماء والأطباء والمهندسين الذين شكّلوا العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي.
هؤلاء الأحفاد الذين خرجوا من رحم الفقر والاضطهاد، هم اليوم الذين يقودون موجة الهجرة العكسية، لكن دوافعهم تختلف جذرياً عن دوافع أجدادهم، فاليوم لا يهربون من مذابح أو مجاعات، بل يبحثون عن جودة حياة أعلى واستقرار سياسي وفرص مهنية أوسع في أوروبا وأميركا الشمالية.
وبذلك، فإن الدولة التي قامت على أنقاض معاناة الجيل الأول تواجه الآن نزيفاً من الجيل الثالث والرابع الأكثر تعليماً، وهو نزيف يهدد ركائزها الاقتصادية والعلمية والأكاديمية.
انعكاسات على العرب والقضية الفلسطينية
أولاً: غياب النخب الإسرائيلية المتعلمة وتفريغ المجتمع من العقول الأكاديمية والتكنولوجية يُضعف قدرة "إسرائيل" على الحفاظ على تفوقها النوعي، سواء في ميادين البحث العلمي أم في التكنولوجيا العسكرية والمدنية. هذا الضعف لا يظهر فوراً، لكنه على المدى المتوسط سيؤثر في قدرة "الجيش" الإسرائيلي على تطوير أنظمة تسليح متقدمة، وفي قدرة الاقتصاد على المنافسة في أسواق عالمية قائمة على الابتكار، وبذلك يمكن أن يجد العرب والفلسطينيون فرصة لإعادة ترميم موازين القوى، خصوصاً إذا استثمروا في التعليم والبحث العلمي لتعويض الفجوة التاريخية.
ثانياً: مغادرة هذه النخب تركت فراغاً يُملأ عادةً من قِبل تيارات أكثر محافظةً وتعصباً، فالمجتمع الإسرائيلي قائم على توازن هش بين العلمانيين والمتدينين. ومع تزايد هجرة العلمانيين والمتعلمين، يتقدم المتدينون القوميون والحريديم لاحتلال مساحات أكبر في السياسة والاقتصاد.
هؤلاء أقل ارتباطاً بالمعايير العلمية وأقل اهتماماً بالحداثة، وأكثر ميلاً للخطاب الديني الإقصائي، وبذلك، فإن السياسات المتطرفة تجاه الفلسطينيين قد تصبح أكثر حدة، لا كنتيجة لزيادة القوة، بل بسبب نقص البدائل العقلانية داخل "إسرائيل" نفسها.
ثالثاً: بروز هيمنة اليمين المتعصب داخل "إسرائيل" سيُسرّع من تدهور صورتها عالمياً، فالمجتمع الدولي، خاصةً في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، بدأ أصلاً يُظهر تذمراً من سياسات الاحتلال والحروب المتكررة.
ومع صعود قوى دينية متشددة إلى واجهة القرار، ستتعمق الفجوة بين "إسرائيل" وحلفائها التقليديين، ما سيخلق فرصاً جديدة للدبلوماسية الفلسطينية والعربية لإعادة طرح القضية في المحافل الدولية، مستفيدين من عزل "إسرائيل" وتراجع قدرتها على تقديم نفسها كدولة "ديمقراطية متقدمة".
رابعاً: تراكم هذه العوامل قد يدفع "إسرائيل" إلى الدخول في نفق مظلم من الانقسام الداخلي، بسبب غياب الكفاءات، وتغوّل المتطرفين الدينيين. الانقسام بين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين المستوطنين وسكان المدن الكبرى، قد يتحول إلى أزمة بنيوية تهدد وحدة المجتمع الإسرائيلي نفسه.
بالنسبة إلى العرب والفلسطينيين، فإن هذا يعني مواجهة عدو أكثر انقساماً وأقل كفاءة، لكنه أيضاً أكثر اندفاعاً نحو العنف كوسيلة لحسم أزماته الداخلية... وهنا تكمن المفارقة: ضعف "إسرائيل" البنيوي قد يجعلها أكثر خطراً على المدى القصير، لكنه سيفتح الباب على المدى الطويل لإعادة صياغة موازين القوى في المنطقة إذا أُحسن استغلال الفرص.