من حُماة الدولة إلى أدوات الزعيم: الشاباك والدولة العميقة في "إسرائيل"

تزايد حضور مصطلح "الدولة العميقة" في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي. وقد تبنّاه نتنياهو نفسه، متهماً خصومه في المؤسستين الأمنية والقضائية بالسعي إلى إسقاطه عبر توظيف سلطاتهم بغطاء من "الدولة العميقة".

0:00
  • أي مستقبل للأمن الإسرائيلي؟
    أي مستقبل للأمن الإسرائيلي؟

لطالما شكّلت الأجهزة الأمنية في "إسرائيل" – وعلى رأسها الجيش و"الشاباك" و"الموساد" – العمود الفقري لكيان وُلد في سياق صراع، وتغذّى على سردية "التهديد الوجودي".

هذه المؤسسات، التي تأسّست حتى قبل قيام الدولة رسميًا، لم تكن يومًا كيانات منفصلة عن المشروع السياسي الصهيوني، بل نشأت في أحضان الوكالة اليهودية، من خلال ما عُرف بـ"المكتب العربي" – قسم استخباري تابع للدائرة السياسية للوكالة، تأسّس في ثلاثينات القرن الماضي، وكان معنيًا بجمع المعلومات عن المجتمع الفلسطيني والعربي، وتحليل توجهاته، واستشراف ردّات فعله تجاه المشروع الصهيوني ـــ. وقد شكّل هذا المكتب النواة الأولى للفكر الأمني الإسرائيلي، إذ لم يقتصر دوره على الرصد، بل كان مركزًا لإنتاج التصوّرات الاستراتيجية التي استندت إليها لاحقًا "الهاغاناه"، ثم أجهزة الاستخبارات بعد إعلان الدولة.

تأسست المنظومة الأمنية الإسرائيلية على تصوّر مركزي: أن تبقى فوق الانقسامات السياسية، وأن لا تتحوّل إلى أداة بيد فصيل دون آخر، وهو ما منحها شرعية واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي ومكانة شبه مقدسة. لكن هذا التوازن بدأ يتصدع في السنوات الأخيرة. فحادثة تسريب ضابط في "الشاباك" وثائق سرية لصحافيين ولأحد الوزراء لأهداف سياسية لم تكن استثناءً، بل مؤشرًا على تسرّب التسييس إلى عمق الجهاز، وطرح سؤالًا وجوديًا جديدًا: هل ما زالت الأجهزة الأمنية تمثل الإجماع الوطني؟ أم أن الانقسام السياسي العميق بات يهدد "قدسيتها" من الداخل؟

خلال الأشهر الأخيرة، تزايد حضور مصطلح "الدولة العميقة" في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي. وقد تبنّاه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه، متهمًا خصومه في المؤسستين الأمنية والقضائية بالسعي إلى إسقاطه عبر توظيف سلطاتهم بغطاء من "الدولة العميقة"، التي يتهمها بالتآمر على إرادة الناخبين. فلا تكاد تخلو مقالة أو تغطية إعلامية من إحالة إلى هذا المفهوم، سواء بالتأييد أم التنديد.

نتنياهو، الذي يُحاكَم في ثلاث قضايا فساد، وتلاحق التحقيقات مستشاريه في ما بات يُعرف إعلاميًا بفضيحة "قطر غيت"، يسعى إلى الهيمنة على مفاصل الدولة، بدءًا من القضاء عبر "التعديلات القضائية"، وصولًا إلى المؤسسة الأمنية. فقد همّش دور الجيش في صناعة القرار، وأقال بطريقة غير مباشرة رئيس الأركان هرتسي هليفي، وأعلن عزمه على إقالة رئيس "الشاباك" رونين بار، ويُعدّ العدّة لإقالة المستشارة القضائية للحكومة. كل ذلك يأتي في سياق ما يراه خصومه محاولة لتحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات طيّعة بيده، مستخدمًا فشل تلك الأجهزة في منع كارثة 7 أكتوبر كذريعة لإعادة تشكيلها على مقاسه.

إقالة رئيس "الشاباك" لم تكن قرارًا مهنيًا، بل خطوة رمزية في معركة نتنياهو لتحويل الجهاز من ذراع أمنية للدولة إلى ذراع أمنية للزعيم. هذه المعركة تعكس التوتر المتصاعد بين "الشاباك" والتيارات السياسية، خصوصًا اليمين الديني القومي. فالجهاز يحتوي على قسم خاص بمكافحة الإرهاب اليهودي، يتابع منظمات متطرفة مثل "شبيبة التلال" و"تدفيع الثمن"، ويحاول منع إعادة تشكّل تنظيمات إرهابية محظورة مثل "كاخ"، التي أسسها الحاخام مئير كهانا، وصُنّفت كتنظيم إرهابي عام 1994 بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي. تنشط هذه الجماعات بشكل أساسي في الضفة الغربية والقدس، وتُعدّ جزءًا من الحاضنة السياسية والاجتماعية لبعض الوزراء في الحكومة الحالية.

هنا تتحوّل مهمة "الشاباك" من قضية أمن قومي إلى مواجهة سياسية، فبعض الشخصيات النافذة في الحكومة – وعلى رأسهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير – لديه تاريخ من الانتماء لتلك الجماعات، وقد خضع سابقًا لتحقيقات من "الشاباك"، ما يعمّق التوتر الشخصي والمؤسسي مع الجهاز.

كما تُتّهم القيادة السياسية، وعلى رأسها نتنياهو، بمحاولة استخدام الأجهزة الأمنية في تصفية خصوم سياسيين، وهو ما قوبل برفض من قادة هذه الأجهزة، وأدى إلى اتساع هوّة الثقة بينهم وبين الحكومة.

ما يحدث اليوم ليس مجرد صدام عابر بين "الشاباك" وحكومة نتنياهو، بل هو انعكاس لتحوّل إسرائيل من دولة مؤسسات إلى دولة زعامة فردية. هذا التحوّل يهدد بتفكيك الإجماع الأمني الذي قامت عليه الدولة، وينذر بانقسام ولاءات داخل الأجهزة نفسها: بين من يخضع للسلطة السياسية، ومن يتمرّد عبر تسريبات أو مقاومة صامتة. في هذه الحالة، قد تصبح الأجهزة الأمنية – التي أُنشئت لحماية إسرائيل – جزءًا من أزمتها البنيوية، وربما سببًا مباشرًا في اهتزاز بنيانها.

أي مستقبل للأمن الإسرائيلي؟

إن استمرار تفكك الإجماع حول مكانة الأجهزة الأمنية في "إسرائيل"، في ظل تسارع التسييس والانقسام المجتمعي، يدفع نحو سيناريوهات حرجة.

السيناريو الأول، هو نجاح نتنياهو في إخضاع المؤسستين الأمنية والقضائية، ما يعني تحوّل "إسرائيل" فعليًا إلى "دولة زعيم"- الملك نتنياهو- تُدار بأدوات الولاء الشخصي لا المؤسسي، وهو سيناريو يحمل في طياته تهديدًا وجوديًا على المدى الطويل، خصوصًا مع تآكل الثقة الداخلية وتنامي التحديات الإقليمية.

السيناريو الثاني، هو نشوء "تمرد ناعم" داخل الأجهزة، يتجلى في التسريبات، والتقارير الموجّهة، وربما العصيان المهني الصامت، ما قد يؤدي إلى شلل إداري وأمني، ويضاعف من حالة عدم الاستقرار السياسي والعسكري.

أما السيناريو الثالث، فيرتبط بحالة الاستقطاب الحادة داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي لم تَعُد مقتصرة على النخب أو الساسة، بل امتدت إلى الجيش نفسه. فقد ظهرت خلال الأشهر الأخيرة موجة من العرائض والاحتجاجات، من جنود وضباط في الخدمة الاحتياطية، يعترضون على استمرار الحرب في غزة، ويدّعون أن أهدافها لم تَعُد أمنية أو عسكرية بحتة، بل تحوّلت إلى حرب سياسية تخدم أجندة نتنياهو للبقاء في الحكم، وشراء الوقت القانوني والانتخابي.

هذا الاحتجاج، الذي يتقاطع مع انعدام الثقة بقيادة الحكومة، قد يُفضي إلى نقاش داخلي أوسع حول مستقبل المشروع الصهيوني وهويّة الدولة، قد يتطور إلى حرب أهلية كما حذر الكثيرون من العقلاء داخل "إسرائيل".

في المحصّلة، ما يجري داخل الأجهزة الأمنية وفي الشارع الإسرائيلي ليس مجرّد أزمة ثقة، بل عَرض خطير لتحوّلات أعمق تعصف بجوهر النظام السياسي الإسرائيلي، وتدفع به نحو مفترق طرق وجودي: هل تعود "إسرائيل" إلى دولة مؤسسات؟ أم تنزلق نهائيًا نحو حكم الفرد والعصبية السياسية؟