مكانة الإمام الحسين (ع) في الفكر الإنساني المعاصر
لقد كان الحسين بالنسبةِ إلى مثقفي العالم معلّماً وإنساناً نموذجياً صارت قصته عبرةً ودرساً تاريخياً، فرأيناه في الأعمال الأدبية والتاريخية، ورأينا عشاق أهل البيت من أصحاب القلم يسيرون في مسيرات الأربعين، مسلمين ومسيحيين.
إنّ الألم شعورٌ في الإنسان يولّد حسّ التعاطف لدى أخيه الإنسان. وإذا كان الألم والتعاطف شعوراً إنسانياً، فكيف إذا كان المتألّم رجلاً خرج لمواجهة الفسادِ في أمّتِه ولنصرةِ الحقّ والتصدّي لكلمة الباطل والطغيان؟
قضيّة الحسين هي قضيّة الإنسان على مدى التاريخ؛ القضيّة التي لا تنطفئ شعلتها، ليس بسببِ الدماءِ التي سالت ظلماً فحسب، بل لأنّها شكّلت منعطفاً تاريخيّاً ونقطةً مفصليّةً أصبح بعدها شاخصاً للعيان الحقّ من الباطل.
نقول اليوم، في أربعينية الإمام الحسين، إنّ بشاعة ما ارتكِب بحقّ حفيد الرسول (ص) وأولاده وأنصاره، الذين كانوا عدةً قليلةً تحمل الحقّ قضيةً في وجه الظالم الفاسد، سجّلها التاريخ، كما أن عاشوراء غدت نموذجاً للأحرارِ الذين يرفضون الذلّ والهوان، ويرفضون موت الإنسانيةِ في داخلهم.
كلّ الناسِ اليوم معنيّون بهذا الجرح، مسلمين ومسيحيين، وكلّ أبناء الديانات السماوية التي تلتقي عند الأصول والتعاليم ذاتها، فلا فرق بين ظلمٍ وقع بمسلمٍ وظلمٍ وقع بمسيحيّ، ولا فرق بين جراح الحسين بن عليٍّ وآلام المسيح عيسى (ع). هؤلاء الرسل والأولياء والأئمة بعِثوا ليتحمّلوا الآلام العظيمة من أجلِ أن يبقى كتاب الله حياً فينا، قرآناً وإنجيلاً وتوراةً. لقد بعِثوا لكي نتذكّرهم كلّما تألمنا وجارت علينا الحياة، فندرك أنّ أوجاعنا لا تساوي شيئاً أمام ما تحمّله هؤلاء الصفوة والقديسون والأولياء.
لقد كان الحسين بالنسبةِ إلى مثقفي العالم معلّماً وإنساناً نموذجياً صارت قصته عبرةً ودرساً تاريخياً، فرأيناه في الأعمال الأدبية والتاريخية، ورأينا عشاق أهل البيت من أصحاب القلم يسيرون في مسيرات الأربعين، مسلمين ومسيحيين.
إنّ هذه القامات الأدبية سارت في طريق الحسين بعشقها، وشكّلت مسيرةً من الثورة والشرف والإباء، من خلال أقلامها وفكرها النيّر، وتشخيصها الموضوعي للحق والباطل، بفضل التحرر من الأحقاد الأيديولوجية.
وبذلك، تشكّل نهضة الحسين اليوم قضيةً معاصرةً لا تقتصر أبعادها على الماضي وعلى اللحظة التي وقعت فيها حادثة كربلاء في ظهر عاشوراء، إنما هي مدرسةٌ إنسانيةٌ تخصّ الصغير والكبير، المسلم والمسيحي، بل واللاديني واللاأدري، وحتى الملحد، لأنها تعلّمهم الوقوف بوفاءٍ عند القضيّة، وعند احترام الإنسان ومعرفة قيمته، فوق اعتبارات السلطة واستعبادِ الحاكم الفاسد.
هي مدرسة الحسين التي تعلّم المرء الحرية من نير العبودية والهيمنة والاستكبار، وهذه مشكلاتٌ جذرية لدى الإنسان بما هو إنسان، وليس طائفة معينة أو مذهباً معيناً. لذلك، إنّ فلسفة الأربعين تصبّ في خانة تأكيد الوفاء والولاء لهذه المسيرة؛ مسيرة الشهادة والدفاع عن الشرف والكرامة والدين ومحاربة الفساد والظلم.
في يوم الأربعين، نسير بقلوبنا في مسيرة أبي عبد الله الحسين، حاملين راية الحقّ والشهادة، مسلمين ومسيحيين وأحراراً.
لن أستحضر المثقّفين والمفكرين من الشرقِ والغرب جميعاً في ما قالوه في الحسين، ومن العالم العربي من مصر، وصورة الحسين في الخيال العربي من منظور عبد الرحمن الشرقاوي والعقاد وطه حسين وآخرين، إلى الشام ونزار قباني والعراق وبدر شاكر السياب وكثيرين بعد، لكني - خصوصاً - أقف اليوم لأتذكر أبرز قامات الفكر اللبناني ممن كتبوا وقالوا وأنشدوا ونظموا في الحسين وواقعة عاشوراء، فكان عشقهم جلياً واضحاً، وكانت كلماتهم ناضحة بالحب والإنسانية والتعاطف، وكان فكرهم زاخراً بمعاني الحرية والشرف والإباء، فما أكثرهم إنصافاً وحكمة! وما أعظمهم نصرة لكلمة الحق في كل زمان!
ومن هذه الأسماء الكبيرة التي عرفناها، عبد المسيح أنطاكي، وريمون قسيس، وسعيد عقل، وأمين نخلة، ونصري سلهب، وخليل فرحات، وجوزيف الهاشم، وسليمان كتاني، وبولس سلامة، وجورج جرداق، وجورج شكور، وفيكتور الكك، وإدوار مرقص، وأنطوان بارا الذي كتب عن الحسين في الفكر المسيحي ما لا تفيه حقه الكلمات، وميشال كعدي الذي قال الكثير في العالميّة الحسينية، وجان قسيس الذي قال إنّ جرح الحسين جرح الكون الذي لا يندمل، والمطران جورج صليبا الذي قال إن الحسين جوهرة أرسلها الله من السماء لتنير الطريق، وميشال جحا الذي قال إنه يعشق الإمام الحسين منذ كان طفلاً، والمطران عصام درويش الذي قال أنا مسيحي حسيني، وإنّ كربلاء ليست مدينة، بل هي العالم بأكمله، وإنهم لن يستطيعوا بقطع رأس الحسين أن يقطعوا رأس الحق، وإلياس زغيب الذي ينحت حبه في الحسين كلماتٍ وأدباً.
أخلص لأقول مما تقدّم إنَّ مكانة الإمام الحسين في الفكر المعاصر تؤكّد أن الإمام الحسين سيبقى حياً، كما وعد الله، وقال رسول الله (ص): "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً"، وسيبقى الحسين في موقع الصدارة، لأنه كان المنقذ للإنسان في متاهة الدنيا وأدرانها، ففكر الحسين ونهجه ومبادئه هي البوصلة لكل أحرار العالم.