مشاهد من اليوم التالي لغزّة

شوارع غزّة مرة أخرى، شباب يرتدون الأقنعة السوداء ويحملون البنادق، عربات تجوب الطرقات تحمل مقاتلين يرفعون أسلحتهم، قوة "رادع" الأمنية تعمل على استعادة الأمن في القطاع وتصفي جيوب عملاء الاحتلال.

0:00
  • يجب ألّا يتحوّل فهمنا لطبيعة مرحلة التحرّر الوطني ومهماتها إلى نظرة ذاتية أحادية الجانب.
    يجب ألّا يتحوّل فهمنا لطبيعة مرحلة التحرّر الوطني ومهماتها إلى نظرة ذاتية أحادية الجانب.

أكثر من عمل منذ إعلان ترامب خطته هو محطات التلفزيون، رصدوا كل شاردة وواردة على مساحة كبيرة من الكرة الأرضية. سيل هادر من الصور والمقاطع الفلمية، تصريحات وخطابات وإعلانات وشائعات، وبين الفقرة والأخرى صور من قطاع غزّة تذكر بسبب هذا المهرجان الإعلامي. طغت الصورة على كل شيء. يمكن اختصار جميع الصور التي شاهدناها في أربعة مشاهد تروي قصة ما حدث وما سيحدث.

المشهد الأول: مئات لآلاف الغزيين يزحفون نحو شمال القطاع للمرة الثانية منذ بداية الحرب، المنازل مدمرة، والوجوه هائمة بين الركام تبحث عن أحبة ظلوا هناك، أكوام من الأتربة هي كل ما تبقى من جهد وذكريات العمر الذي مضى، شظايا صواريخ مزقت العالم كما عرفه هؤلاء الذين يتجولون ضاربين كفا بكف، وسط المشهد صبية اختاروا شارعا أزالت جرافات البلدية الركام الذي كان يغلقه، وحولوه إلى ملعب كرة قدم يتبادلون الصيحات ويركضون خلف كرة ظهرت عليها هي الأخرى علامات الحرب.

الكاميرات ومراسلي التلفزيونات، يلاحقون المارة يسألونهم عن مشاعرهم بوقف إطلاق النار، يستجمع أحدهم كل شجاعته، يطرد اليأس الذي زحف إلى قلبه، فتشع عيناه بنظرة تحد للمحتل ويقول: "ستعيد بناء كل شيء أفضل مما كان"

المشهد الثاني: بعيدا عن غزّة وفي قلب المقاومة يجتمع 74 ألف شاب، في أكبر تجمع كشفي في العالم، "أجيال السيد"، ليس اسما عابرا بل رسالة لكل من بنوا أحلامهم وأوهامهم على فكرة أن المقاومة تتراجع، وأن زادها البشري ينضب. لم تحضر سوى كاميرات قليلة لوسائل إعلامية معروفة بدعمها للمقاومة، فلا أحد يريد الربط بين ما يحدث في بيروت، وما يحدث في غزّة. صورة النصر المطلوبة لن تتحقق إذا كان هذا العدد من الشباب يعلنون أنهم يسيرون على درب سيد المقاومة وسيد الأمة. ما قاله هؤلاء الشباب لكل من يتآمر على المقاومة: حتى لو تمكنت من نزع سلاح المقاومة (ولن تتمكنوا) فإن المقاومة موجودة وباقية في عقول وقلوب عشرات آلاف الشباب، ليس فقط "أجيال السيد"، بل عدد لا يحصى من الشباب يمتد في الجغرافيا من صنعاء إلى غزة، فالقدس، مرورا ببغداد وطهران وصولا إلى بيروت.

المشهد الثالث: مشهد رسمي هزيل يبدأ من الكنيست حيث يقف الرئيس الأميركي وقفة البطل المخلص، يوزع النكات على الحاضرين، ويؤكد بابتسامة عريضة أن بلاده كانت شريكة في المجزرة، ويحاول بكل الوسائل استعادة صورة "واحة الديمقراطية" المفقودة، لكنه ينسى في لحظة أنه في دولة تدعي السيادة، فيتوجه إلى رئيس الكيان طالبا إصدار عفو عام عن نتينياهو. "بضع زجاجات من الشمبانيا وسيجار، من يهتم"، هذا ما قاله وهو محق فالعالم الذي لم يحاسب هذا القاتل على واحدة من أبشع مجازر التاريخ، لا يمكن أن يحاسبه على رشوة بسيطة.

يمضي الكاوبوي منتشيا بقتل أكبر عدد من أصحاب الأرض الأصليين، ليصل إلى شرم الشيخ، فيتحول المشهد ليصبح سورياليا، القاتل الذي اعترف في نفس اليوم بتزويد آلة الإبادة الصهيونية بأعقد وأحدث أسلحة القتل، يتحول إلى داعية سلام يتحدث عن أكبر صفقة سلام من شأنها منع الحرب العالمية الثالثة. تكتمل سوريالية المشهد بغياب طرفي المعركة عن مائدة توقيع الاتفاقية. ويدوي في الصمت سؤال، هل ستقنع تلك الأوراق طفلا في فلسطين أو لبنان بالتخلي عن أرضه وثأره؟ وهل ستقنع مستوطنا بالتخلي عن أحلامه "بإسرائيل الكبرى". كان المطلوب صورة نصر للسيد الرأسمالي الاستعماري حققتها آلاف الكاميرات التي التقطت الصور وبثت الخبر. على الأرض المواجهة مستمرة ولن تنتهي، هذا ما يدركه جميع من حضروا، ومن لم يحضروا.

المشهد الرابع: شوارع غزّة مرة أخرى، شباب يرتدون الأقنعة السوداء ويحملون البنادق، عربات تجوب الطرقات تحمل مقاتلين يرفعون أسلحتهم، قوة "رادع" الأمنية تعمل على استعادة الأمن في القطاع وتصفي جيوب عملاء الاحتلال. إنها المقاومة ما زالت حية وموجودة وتحمل سلاحها.

الآليات هرعت إلى الشوارع تعمل جاهدة لإزالة آثار الدمار، البلديات تعلن عن إجراءات لاستعادة تزويد الناس بالخدمات. تجمعات في الشوارع بانتظار وصول الأسرى المحررين، وعلم فلسطين يرفرف في كل مكان. يحتار حامل الكاميرا أين يذهب، وأي لقطة يختار. كيف يقنع العالم بأن هؤلاء المحتفلين في الشوارع مهزومون، وأن الشرط الذي وضعه الاحتلال بتسليم أسراه مباشرة إلى الصليب الأحمر، دون الإجراءات التي اتبعتها المقاومة في المرات السابقة، لا يدل على اعتراف ضمني بأن المقاومة ما زالت موجودة وتمتلك القدرة على تقديم هذا الاستعراض الذي ينزل كالصاعقة على رؤوس قادة الاحتلال. 

مشاهد أخرى ستتوالى عند افتتاح المعابر، ومؤتمرات إعادة الإعمار، وحكايا بطولات من اكتفوا بالمراقبة والتنديد. أخبار الملايين التي يغدقها المستعمرون ليمحوا آثار جريمتهم، مقالات في صحف بيضاء وصفراء تحمل المقاومة مسؤولية الحرب، وتظهر ما حققه السلام. يغيب مشهد واحد لطفل فلسطيني أو لبناني فقد عائلته، لا تعنيه الطرقات والبنايات الجديدة، يحمل في جيب بنطاله الممزق صورة الشهداء من عائلته، ومعها صورة الشهيد السيد حسن نصر الله، أو صورة الشهيد يحيى السنوار، ينتظر السنوات لتمضي ويصبح قادرا على حمل البندقية، يحلم بلحظة يجتاز فيها جدار القهر، وجدار الحصار ليصنع طوفانه الخاص.