لماذا يتهرب نتنياهو من إبرام صفقة شاملة؟
لماذا لا تريد حكومة نتنياهو إنجاز صفقة شاملة تلبي مطالب الشارع الإسرائيلي باستعادة المختطفين، وتريح "الجيش" المنهك والتائه وسط قطاع مدمر، وتنقذ سمعة الكيان المتدهورة عالمياً؟
-
إطالة أمد الحرب على القطاع أدت إلى تعمق الأزمة الاقتصادية التي يعانيها الكيان.
منذ بداية حربها على قطاع غزة، رفضت "إسرائيل" إبرام أي صفقة شاملة مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، أياً كانت بنود تلك الصفقة ومزاياها، وفضلت عوضاً عن ذلك الدخول في صفقات جزئية تتيح لها استعادة عدد معين من الرهائن في كل مرة، لكن بأقل ثمن سياسي وعسكري ممكن، والأهم ضمان عودتها إلى الحرب بعد انتهاء المدة الزمنية المحددة لكل صفقة أو هدنة إنسانية.
لكن لماذا لا تريد حكومة نتنياهو إنجاز صفقة شاملة تلبي مطالب الشارع الإسرائيلي باستعادة المختطفين، وتريح "الجيش" المنهك والتائه وسط قطاع مدمر، وتنقذ سمعة الكيان المتدهورة عالمياً؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحليل الموقف الإسرائيلي حيال هذا الخيار تبعاً لعدة زوايا أساسية منها ما يلي:
أولاً- من زاوية السياسة العامة الإسرائيلية: تظهر تطورات الأشهر الماضية وجود تباين واضح في الساحة الداخلية حيال سبل التعامل مع قضية الحرب على غزة وحل مشكلة الرهائن، فهناك تيار يمثله الشارع الشعبي الإسرائيلي مدعوماً من بعض الأطراف السياسية المحسوبة على المعارضة. يضع هذا التيار قضية "تحرير الرهائن" في رأس أولوياته، ويطالب منذ عدة أشهر بإبرام صفقة شاملة مع "حماس".
أما التيار الثاني، الذي يمثله نتنياهو والتيار الديني والسياسي المتطرف، فهو يرى أن استعادة الرهائن جميعاً بصفقة شاملة تتضمن وقفاً دائماً للحرب وإطلاق آلاف الأسرى الفلسطينيين تعني عملياً خسارة استراتيجية لإسرائيل.
لذلك، كان خيار هذا التيار، وهو الممسك بالقرار السياسي والعسكري، اللجوء إلى الصفقات الجزئية التي تتضمن الإفراج عن عشرات الأسرى الفلسطينيين في مقابل جزء محدود من الرهائن الإسرائيليين، وهذا من شأنه تبعاً لحسابات هذا الفريق تحقيق بعض المكاسب الداخلية أمام أهالي الرهائن، وإبقاء الحرب مستمرة بغية إطالة عمر حكومة نتنياهو، والحيلولة دون منح "حماس" نصراً سياسياً وعسكرياً كبيراً.
ثانياً- من زاوية إدارة المفاوضات: تفضل حكومة نتنياهو الصفقات الجزئية لكونها تحقق ثلاثة مطالب أساسية في مسار المفاوضات.
هذه المطالب هي:
-إطالة أمد الحرب، إذ إنّ بقاء بعض "الرهائن" بيد حركة "حماس" يُعطي "إسرائيل" مبرراً داخلياً وخارجياً لمواصلة عملياتها العسكرية في القطاع.
-ممارسة الضغط النفسي على المفاوض الفلسطيني، إذ إن تجزئة التبادل تضعف وحدة موقف حركة "حماس" وتمزق ورقة الرهائن الكبيرة إلى أجزاء صغيرة يمكن التعامل معها تكتيكياً، وهذا ما يجعل البعض يسأل: هل كان أمام "حماس" خيارات أخرى في ضوء عملية الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة؟ لكن هذه الصفقات لم تخفف في المقابل من فاتورة الدم الفلسطيني؟
- التحاليل على الشرعية الدولية، فكل صفقة جزئية تُسوّق كـ"إنجاز إنساني" أمام المجتمع الدولي، وهذا من شأنه تخفيف الضغط السياسي والدبلوماسي الذي تتعرض له إسرائيل من جراء ما ترتكبه من مجازر وجرائم وتجويع تدخل فعلياً في إطار التوصيف القانوني والإنساني الدقيق لجريمة الإبادة الجماعية.
ثالثاً- الدوافع الاستراتيجية المتمثلة في الحيلولة دون منح حركة "حماس" أي فرصة لتحقيق نصر سياسي أو اقتصادي، فأي صفقة شاملة تعني بوضوح: وقف الحرب، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، وعودة النازحين إلى مدن القطاع ومحافظاته، وتبادلاً شاملاً للأسرى، وهذا بالنسبة إلى نتنياهو وحكومته يعني هزيمة سياسية وعسكرية.
لذلك، تعمد "إسرائيل" إلى تنفيذ إجراء ما يمكن تسميته بتقسيم الزمن، وبالتالي إبقاء الملف مفتوحاً، وهذا ما يُمكّن إسرائيل من كسب مزيد من الوقت لإضعاف حركة "حماس" وعموم الفصائل الفلسطينية عسكرياً، وإدارة الصراع على "جرعات"، ما يتيح للجيش الإسرائيلي التحكم بوتيرة العمليات وتبديل وحداته ودراسة نقاط ضعفه، واستخدام "ملف الرهائن" كورقة انتخابية داخلية من خلال إرضاء عائلات الرهائن على مراحل.
باختصار، يمكن القول إن الصفقات الجزئية لم تكن مجرد حلول إنسانية مؤقتة، بل كانت بمنزلة أداة سياسية-عسكرية إسرائيلية لإدارة الحرب، وتمديدها، والتحكم في وتيرتها، وتحقيق مكاسب تدريجية في ملف الرهائن، مع تجنّب "التسوية الكبرى" التي كانت ستمنح "حماس" انتصاراً سياسياً واضحاً، وتلحق بـ"إسرائيل" هزيمة سياسية تقود نتنياهو لاحقاً إلى أروقة القضاء لمحاسبته على كل ملفات الفساد المثارة بحقه.
تغطية على الخسائر
في المقابل، فإن الهروب الإسرائيلي من خيار الصفقة الشاملة كان له كلفته الكبيرة على "إسرائيل"؛ كلفة تحاول حكومة نتنياهو إخفاءها أو التقليل من حجمها وخطورتها، فقد تسبب الإصرار على مبدأ الصفقات الجزئية بحدوث خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة لإسرائيل محلياً وخارجياً.
مثلاً، إلى جانب اتساع دائرة التأييد الشعبي والرسمي العالمي للقضية الفلسطينية وإعلان العديد من الدول عزمها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية الشهر المقبل، فإن مشاعر الغضب والمقاطعة والدعاوى القضائية بدأت تلاحق الإسرائيليين في كثير من الدول، وهو ما تسبب بخسائر اقتصادية كبيرة للشركات والمؤسسات الإسرائيلية التي فوجئت بتوقيف الكثير من برامج التعاون الاستثماري والفني مع نظيراتها في أكثر من دولة غربية.
أما داخلياً، فإن إطالة أمد الحرب على القطاع أدت إلى تعمق الأزمة الاقتصادية التي يعانيها الكيان، ولا سيما مع توقف شركات كثيرة عن العمل وتسريح آلاف العمال وانتقال بعضها للعمل خارجاً، فضلاً عن الكلفة الاقتصادية الباهظة لهذه الحرب، والتي شكلت ضغطاً كبيراً على اقتصاد الكيان، إذ تم رصد زيادة قدرها نحو 9 مليارات دولار في الموازنة الجديدة لتغطية نفقات استمرار الحرب.
ولا تخفى كذلك فاتورة الخسائر العسكرية التي تضاعفت، سواء على صعيد الخسائر البشرية لجيش الاحتلال، أو لجهة الروح المعنوية المنهارة لأفراد "الجيش"، أو حتى خسائر الآليات والمعدات التي نجح مقاتلو "حماس" والفصائل في تدميرها وعطبها كلياً أو جزئياً. ومع انتهاء الحرب، ستتكشف تباعاً حجم وأبعاد الخسائر المهولة التي حملتها حكومة نتنياهو للإسرائيليين من جراء تبنيها خيار الصفقات الجزئية... لا لشيء، إنما لتبقى أطول مدة ممكنة في الحكم!