كيف يحمي القانون الدولي قلعة بعلبك الأثرية؟
مع استمرار العدوان الصهيوني على مختلف المناطق اللبنانية، لاسيما مدينة بعلبك، ثار القلق حول احتمال استهداف "إسرائيل" قلعة بعلبك الأثرية، خصوصاً بعد أن شنّت "إسرائيل" غارة على موقع يبعد 600 متر من القلعة.
لم تكتف آلة القتل الإسرائيلية بإزهاق أرواح المدنيين اللبنانيين، وإحداث دمار كبير في البيوت، وتفجير أحياء بأكملها، واستهداف الطواقم الطبية ومحيط المستشفيات وإحراق الغابات وتلويث البيئة، بل أدى القصف الإسرائيلي المكثف والمتواصل إلى إلحاق أضرار بالعديد من المعالم الأثرية والممتلكات الثقافية، لاسيما في صور والنبطية وبعلبك.
مع استمرار العدوان الصهيوني على مختلف المناطق اللبنانية، لاسيما مدينة بعلبك، ثار القلق حول احتمال استهداف "إسرائيل" قلعة بعلبك الأثرية، خصوصاً بعد أن شنّت "إسرائيل" غارة على موقع يبعد 600 متر من القلعة، كما أدت غارة إسرائيلية أخرى على مدخل بعلبك الجنوبي إلى تضرر قبة دورس التي تم تشييدها باستخدام مواد منقولة من الآثار الرومانية القديمة خلال العصر الأيوبي.
ومع تواصل العدوان على المدينة، لم تسلم الآثار فيها من الغارات الإسرائيلية، التي طالت السور الروماني خارج قلعة بعلبك، قرب ثكنة غورو، ما أدى إلى انهيار قرابة 30 متراً من السور مخلّفة أضراراً كبيرة في هذا المعلم التاريخي.
بالإضافة إلى الأضرار المباشرة للآثار في المدينة، هناك الأضرار غير المباشرة الناتجة عن الدخان الأسود والانفجارات والارتجاجات التي أثرت في الأحجار الكريمة وتصدع في الهياكل الهشة.
غير أن إصدار "جيش" الكيان الإسرائيلي أوامر إخلاء لسكان مدينة بعلبك وضواحيها تمهيداً لقصفها من دون تحديد الأبنية التي يريد استهدافها، في تصعيد عسكري غير مسبوق على المدينة، أثار القلق البالغ حول احتمال استهداف قلعة بعلبك التاريخية الشاهدة على حضارات عريقة وإرث لبنان وهويته والمدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) منذ العام 1984.
وخوفاً من استهداف "إسرائيل" للمعالم الأثرية، تحرك لبنان دبلوماسياً لحمايتها، فوجه وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال، محمد وسام المرتضى، عدة كتب إلى منظمة اليونيسكو، عرض فيها خطر الاعتداءات الإسرائيلية على المعالم الأثرية ومن ضمنها قلعة بعلبك وضرورة العمل من أجل حمايتها، كما وجه نداء لمجلس الأمن الدولي "وما تبقى من ضمير في هذا العالم" لحماية قلعة بعلبك من التهديدات الإسرائيلية.
وأسفرت النداءات اللبنانية لحماية قلعة بعلبك الاتفاق على عقد جلسة استثنائية في اليونيسكو في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري لطلب الحماية المعززة للمواقع التاريخية اللبنانية ومن بينها قلعة بعلبك. كما دعت الأمم المتحدة إلى حماية مواقع التراث الثقافي في لبنان بعد الإنذارات الإسرائيلية بقصف مدينة بعلبك.
أولى القانون الدولي الإنساني أو قانون الحرب حماية للتراث الثقافي خلال النزاعات المسلّحة بحيث ألزم أطراف النزاع بحظر استهداف الممتلكات الثقافية. وتُعد كل من اتفاقية لاهاي وبروتوكولها الأول لسنة 1954 الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلّح، وبروتوكولها الثاني عام 1999، وكذا البروتوكول الإضافي الأول عام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، النصوص الأساسية لحماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلّحة الدولية، وبالتالي فإن قلعة بعلبك تخضع للحماية المقررة في هذه المواثيق الدولية.
ألزمت اتفاقية لاهاي عام 1954 الأطراف المتعاقدة بحماية الممتلكات الثقافية واحترامها. ووفرّ البروتوكول الثاني الملحق بهذه الاتفاقية عام 1999 الحماية المعززة للممتلكات الثقافية، والتي تمنحها حصانة كاملة ضد الهجمات العسكرية أبان النزاع المسلح. واعتبرت المادة 15 من هذا البروتوكول أن الاستهداف المتعمد للممتلكات الثقافية المشمولة بحماية معززة يعدّ جريمة حرب.
أما بروتوكول جنيف الأول عام 1977 ، الملحق باتفاقيات جنيف الأربع عام 1949، فبالإضافة إلى أنه يوفر حماية للممتلكات الثقافية على أنها أعيان مدنية، فقد حظّر صراحة في المادة 53 ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب. وبحسب المادة 85 من البروتوكول نفسه فإن شن الهجمات على الآثار التاريخية يعدّ انتهاكاً جسيماً للبروتوكول وبالتالي جريمة حرب. وأكدت المادة 8 من نظام روما الأساسي اعتبار تعمد توجيه هجمات ضد الآثار التاريخية جريمة حرب.
ومن ناحية أخرى، قد تتذرع دولة قامت باستهداف الممتلكات الثقافية بأنها ليست طرفاً في الاتفاقيات الدولية التي تحمي الآثار الثقافية، وبالتالي لا تقع عليها المسؤولية الدولية كون هذه الاتفاقيات لا تلزم إلا أطرافها، إلا أن حماية الممتلكات الثقافية هي قاعدة عرفية تسري على جميع الدول حتى تلك التي لم تنضم إلى المعاهدات الدولية التي توفر حماية للممتلكات الثقافية.
إن أي اعتداء على الممتلكات الثقافية لشعب ما، لا يشكل اعتداء عليه فقط، بل اعتداء على كل شعوب العالم. وحرصت مقدمة اتفاقية لاهاي عام 1954 على ذكر "أن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب كان تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء"، وبالتالي فإن حماية قلعة بعلبك والآثار التاريخية في لبنان هي مسؤولية البشرية جمعاء وليس فقط اللبنانيين والدولة اللبنانية.
قلعة بعلبك اليوم التي تشهد على حرب شنيعة، سيبقى يصدح فيها صوت فيروز "بعلبك أنا شمعة على دراجك"، ويعلو فوق أصوات الصواريخ والانفجارات، وستبقى مدينة الشمس، مدينة العز والكرامة والصمود، شعاعاً يضيء لبنان والعالم بأكمله.