غزة تعمّق جراحات الاحتلال.. وتواصل القتال رغم الجوع والخذلان!
في غزة يؤمن المقاتلون الحفاة والجوعى بأن الفارق في الإمكانات ليس مقياساً للنصر أو الهزيمة، وأن تخلّي العالم عنهم وخذلان أمتهم لهم لا يعني أن النصر سيكون حليف الأعداء.
-
ما يجري في غزة معقّد بدرجة كبيرة، وهو أقرب إلى الأحجية متعدّدة الطبقات.
في كل مرّة تنفّذ فيها المقاومة الفلسطينية عمليات نوعية ضد "جيش" الاحتلال المجرم، تُثار الكثير من التساؤلات، وخصوصاً في وسائل الإعلام الإسرائيلية، حول سر استمرار هذا النوع من العمليات طوال كل هذه الفترة الطويلة من الحرب. وفي كثير من الأحيان، تتحوّل هذه التساؤلات إلى لجان تحقيق تُشكّلها قيادة الجيش الصهيوني للوقوف على أسباب إخفاق قوّاتها "النخبوية " ذات الإمكانيات الهائلة في حسم المعركة مع المقاومة في غزة، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إليها على أنها معركة تقليدية متكافئة أو شبه متكافئة، بل لا يمكن بعد هذا الوقت الطويل من القتال والثبات الملحمي أن تُصنّف على أنها معركة عسكرية من الأساس، إذ إن ما يجري في غزة خلال 22 شهراً تقريباً، والذي فاجأ الجميع، سواء من الأعداء أو الأصدقاء، يفوق في حقيقته كل ما يمكن أن يُطلق عليه لقب معركة، فهو من دون مبالغة أقرب إلى معجزة لم يشهدها التاريخ الحديث، وربما القديم أيضاً.
بكل منطقية ومهنية، ومن دون أي تحيّز أو تمييز، فإن ما يجري في غزة لا يشبه ما حدث في فيتنام إبّان الاحتلال الأميركي على سبيل المثال، فالظروف الموضوعية والتفاصيل الصغيرة التي أحاطت بتلك الحرب تختلف شكلاً وموضوعاً عن مثيلاتها في القطاع الصغير والمُحاصر، ولا تشبه ما جرى في الجزائر أيضاً، إذ إن فارق عدد السكّان، والمساحة الجغرافية، والموقف العربي والإسلامي والدولي آنذاك، شكّلت كلها عوامل مهمّة وربما حاسمة في انتصار ثورة المليون ونصف المليون شهيد العظيمة.
في غزة، تكاد كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة تقف في مصلحة العدو، سواء من ناحية التفوّق العسكري الكامل والحاسم أو من ناحية امتلاكه مظلّة دعم متعدّدة الجوانب من كل دول العالم تقريباً؛ تلك الدول التي لم يرَ الشعب الفلسطيني منها طوال فترة العدوان أو خلال أكثر من سبعة عقود ونصف عقد من الاحتلال إلا كلّ قبيح، ولم يسمع منها سوى بعض عبارات الشجب والاستنكار الهادفة إلى حفظ ماء وجهها الذي أُريق في طرقات غزة وشوارعها المدمّرة والمحترقة.
في الملحمة التي ما زالت رحاها تدور في غزة الصغيرة والمنكوبة، لا يمكن إجراء أي مقارنة بين ما تملكه "دولة" الاحتلال من قدرات وبين تلك التي ما زالت تتوفّر لدى الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، إذ إن الفارق بين الجانبين هائل إلى درجة لا يمكن وصفها، بل لا يمكن النظر إلى قدرات المقاومة وإمكاناتها "العسكرية" بأنها قادرة على تحقيق أي إنجاز يُذكر حتى في مواجهة أضعف جيوش العالم وأقلّها خبرة وحداثة.
كل ما نشير إليه أعلاه تعرفه أجهزة استخبارات العدو والأجهزة العالمية والإقليمية المتعاونة معها بشكل جيد، وهي تدرك أن المقاومة في غزة، ومعها شعبها العظيم، باتوا يفتقدون أدنى مقوّمات القتال، بل أدنى مقوّمات الحياة، وهذا هو تحديداً الذي يجعلهم يتساءلون كل مرة عن سبب صمود وثبات هذا الشعب طوال هذا الوقت الطويل، وعن سبب نجاح مقاومته البطلة في تحقيق نجاحات تكاد تقترب من درجة المستحيل في مواجهة أعتى قوة عسكرية في المنطقة، ومن منع هذه القوة الغاشمة من تحقيق أهدافها الشيطانية التي تتناقض مع كل مبادئ القانون الدولي الإنساني، ومبادئ حق الإنسان في الحياة حتى في أوقات الحرب.
بعد العملية النوعية التي جرت قبل يومين في رفح أو حتى نكون أكثر تحديداً في المنطقة الفاصلة بين محافظتي رفح وخان يونس، والتي استهدفت مقر قيادة لواء كفير في الجيش الصهيوني، وهو أحد ألوية النخبة في "جيش" الاحتلال، أثارت الصحافة الإسرائيلية العديد من التساؤلات عن كيفية تمكّن عدد لا يقل عن خمسة عشر مقاتلاً فلسطينياً من الوصول إلى هذه الموقع الحسّاس، الذي يقع لمن لا يعرف جغرافيا غزة في منطقة بعيدة تماماً عن خطوط القتال الحالية، إذ تم إنشاؤه في منطقة مخلاة تماماً من السكّان، وتمت السيطرة "العملياتية" عليها بحسب الوصف الإسرائيلي بشكل مُطلق منذ أكثر من عام كامل، وتم تدمير كل ما فيها أو حولها من بيوت ومنشآت، وباتت مكشوفة لمراقبة طائرات الاحتلال التي لا تغادر سماء غزة من كل الجهات، وهي في الأساس لا تحتاج لكل الحماية المفروضة عليها بسبب تجاوز جيش الاحتلال لها لناحية الغرب، أي باتجاه عمق مدينة خان يونس بأكثر من سبعة كيلومترات، إضافة إلى خلو مدينة رفح التي تجاورها من الناحية الجنوبية من أي وجود سكّاني أو حتى مقاوم، إلى جانب ما حل بهذه المدينة الحدودية الجميلة من دمار هائل قضى على كل البنى التحتية والبيوت السكنية فيها.
في حقيقة الأمر، تبدو تساؤلات الصحافة العبرية مُحقّة، وهي التي لم تتعلّق فقط بعدد المقاتلين أو بكيفية وصولهم إلى مكان الهجوم، إنما شملت أيضاً الحديث عن جاهزية "جيش" الاحتلال، وعن حالة الترهّل التي بدأ يعانيها جنوده بفعل طول فترة القتال، والتي لم تظهر في هذه العملية فقط، إنما تكررت سابقاً في عمليات مشابهة في حي الشجاعية وبيت حانون ومخيم جباليا، وبانت بعض تفاصيلها أيضاً في حي الزيتون قبل أيام، إذ وصل المقاتلون إلى دبابات العدو وآلياته وهم في مرمى بصر ومراقبة جنود الاحتلال الذين تمركزوا على نوافذ بيوت مجاورة، دون أن يتم رصدهم أو استهدافهم، حتى بعد تنفيذهم للمهام الموكلة إليهم.
في غزة، تبدو تطورات الميدان في ظل الحديث عن توسيع العمليات العسكرية "الإسرائيلية" لتشمل احتلال كامل مدينة غزة وإخلاءها من سكّانها خارجة عن المألوف، ولم يسبق أن وقعت أحداث مثيلة أو مشابهة في معارك سابقة في المنطقة والعالم، وإن شهدنا بعضاً منها فيما جرى قبل عدة أشهر من معارك بطولية في بلدات وقرى الجنوب اللبناني العزيز، والذي نجحت خلالها المقاومة الإسلامية في لبنان في تسجيل مشاهد بطولية أثناء تصدّيها للعدوان الصهيوني الغاشم، والذي فشل في تلك المعارك في تحقيق أي إنجاز لافت رغم ما تلقّاه من دعم، وما حصل عليه من تأييد من دول قريبة وبعيدة، إلا أنه في نهاية المشوار اضطر إلى التنازل عن معظم أهدافه والذهاب باتجاه اتفاق وقف إطلاق النار، حتى وإن كان هشّاً.
في غزة التي ما زالت تتعرّض لعدوان واسع وشرس تسجّل المقاومة على تواضع إمكانياتها، ومع ما تتعرّض له هي وشعبها من حصار وتجويع وخذلان ملحمة أسطورية سيخلّدها التاريخ بأحرف من نور، وسيذكرها العالم خلال عقود قادمة كمعجزة فاقت في تفاصيلها، وربما نتائجها، كل ما سبقها من معجزات، كيف لا وهي تضرب أروع الأمثلة في الصمود والثبات ورباطة الجأش والصبر والعزيمة والإرادة، وهي تتجاوز مربع المنطق والمعقول باتجاه مربع اللامنطق والمستحيل، وهي تفاجئ الصديق قبل العدو بهذا المخزون الهائل من القدرة على التحمّل، وبهذا الإقبال اللافت نحو خيار الشهادة دفاعاً عن الأرض والعرض والمقدسات، والذي يبدو أنه بات سلاحها الأمضى في وجه التعنّت الإسرائيلي الواضح المسكون بكثير من الغرور والعنجهية والتطرّف.
في غزة، لا حاجة لإجراء تحقيقات حول سبب الإخفاق الإسرائيلي المستمر كل هذه المدة الطويلة، فهو ليس سبباً عسكرياً مباشراً يرتبط بخطط المقاومة القتالية والعملياتية رغم أهميتها، ولا بتراجع جاهزية جنود الاحتلال رغم إقرار العدو بذلك، فالأسباب تختلف عن ذلك شكلاً وموضوعاً، وتتجاوز فكرة قوة هذا الطرف أو ضعف ذاك، أو ما يملكه هذا الجانب من قدرات وانخفاض ما لدى الطرف الآخر، إذ إن كل ما سبق يمكن استعماله لإجراء مقارنات في ظروف مختلفة، بل في ساحات مختلفة، تنطبق عليها صفة الحرب الكلاسيكية أو حتى أنواع أخرى من الحروب، مثل حرب العصابات والحرب اللامتماثلة أو الهجينة.
في غزة، لا يمكن حتى لشخص مثلي موجود قريباً جداً من لجج القتال، ويتابع من كثب كل ما يجري من أحداث وتطورات أن يحدّد الأسباب المباشرة والمنطقية لكل ما يجري، إذ إن كل ما تعلمناه أثناء الدراسة من خطط الحروب، أو تحصّلنا عليه خلال متابعتنا للمعارك القريبة والبعيدة، واطّلاعنا على مئات الدراسات المتعلّقة بشؤون المواجهات العسكرية لا يكفي لمعرفة سبب ما يجري، أو حتى الظروف الموضوعية التي تساهم في حدوثه.
ما يجري في غزة معقّد بدرجة كبيرة، وهو أقرب إلى الأحجية متعدّدة الطبقات، التي تحتاج إلى قدرات خاصة واستثنائية للوقوف على بعض تفاصيلها، وليس جميعها، وهو أمر لا يبدو أنه متوفر لمعظم الذين يتابعون يوميات هذه الحرب، حتى أولئك الخبراء والمحللين العسكريين المخضرمين، والذين يلجأون إلى الخرائط الإلكترونية وصور الأقمار الاصطناعية، ويستعينون بكل ما تعلموه طوال دراستهم الأكاديمية أو أثناء خدمتهم العسكرية، حتى بات أكثرهم عاجزاً عن الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي يدور أغلبها حول الحروب التقليدية أو شبه التقليدية، وهو الأمر الذي يختلف بشكل كبير مع ما يجري في غزة.
بكل بساطة، وبعيداً عن التفاصيل التي يمكن أن تصب في خانة مخططات العدو، يمكننا أن نلخص ما يجري في غزة من عمليات نوعية وغير مسبوقة بأنه أمر خارق للطبيعة، واستثنائي بكل ما للكلمة من معنى، وهو نتاج إيمان مُطلق من قبل المقاومين بأن الله معهم، ويدافع عنهم، ويحفظهم في حلّهم وترحالهم، وفي هجومهم ودفاعهم، وبأن كل ما يملكه العدو من إمكانيات وقدرات لن يغيّر من قدر الله شيئاً، وأن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
في غزة، يؤمن المقاتلون الحفاة والجوعى بأن الفارق في الإمكانات ليس مقياساً للنصر أو الهزيمة، وأن تخلّي العالم عنهم وخذلان أمتهم لهم لا يعني أن النصر سيكون حليف الأعداء والمجرمين والقتلة؛ أولئك القتلة الذين لن تكون نهايتهم أحسن حالاً من نهايات من سبقوهم على مدار التاريخ؛ نهاية سيدفعون فيها ثمن كل ما ارتكبوا من جرائم، وسيتحملون فيها وزر كل ما اقترفوا من موبقات.