غانا وتمدد المقاطعة الشعبية الأفريقية لـ "إسرائيل"
ما يحدث على صعيد تمدد المقاطعة الشعبية الأفريقية لـ"إسرائيل" ليس ظاهرة عابرة بقدر ما يعكس وعياً حقيقياً وإدراكاً شاملاً بطبيعة كيان الاحتلال وجرائمه.
-
تمدد المقاطعة الشعبية الأفريقية لـ"إسرائيل" من المغرب إلى السنغال.
مقاطعة "إسرائيل" وحصار تمددها وتآكل روايتها وانفضاح ممارساتها وانكشافها أمام العالم؛ تلك باتت أبرز العناوين التي تشغل الصحافة العبرية وتدق الخزان لدى بعض الدوائر المهتمة بصنع القرار باستثناء ثالوث نتنياهو - بن غفير - سموتيرتش.
والملاحظ أن تمدد مقاطعة "إسرائيل" وعزلتها لم يعد مقتصراً على المواقف السياسية الرسمية الأوروبية، بل تمدد إلى دول وقارات أخرى من بينها القارة الأفريقية التي باتت مقاطعتها الرسمية والشعبية حاضرة وفاعلة ومؤثرة وتتسع أفقيا وعمودياً، ولم يعد مقتصراً على المواقف الرسمية بل تدحرج إلى المواقف الشعبية والرياضية والفنية والاقتصادية والأكاديمية.
قبل الولوج إلى مظاهر تمدد المقاطعة الأفريقية لـ"إسرائيل" رسمياً وشعبياً؛ أستعيد وقائع العلاقة وملامح التمدد الإسرائيلي في القارة الأفريقية؛ فقبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ بشهرين كان وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، إيلي كوهين، يُجري اتصالات مكثّفة لاستكمال عمليات التطبيع، وتوسيع النشاط الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي في القارة الأفريقية عبر اتصالات ثنائية مباشرة، في محاولة لاستغلال الاتحاد الأفريقي للوساطة، مستهدفاً دولاً أفريقية إسلامية كموريتانيا ومالي والنيجر.
وفي المزاد السياسي لرئيس وزراء "إسرائيل" نتنياهو كان الرجل يرسم أحلام العودة إلى أفريقيا ويُخطط لمزيد من التمدد والزيارات والعلاقات؛ بعد الحرب تهاوت كل تلك الأحلام؛ وانكشفت "إسرائيل" للعالم وللقارة الأفريقية، وتدافعت مواقفها ووقفاتها الشعبية والرسمية وتمددت وامتدت تظاهراتها في كل الميادين منحازة إلى الشعب الفلسطيني ومناصرة له، ومنددة بالمجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، من السنغال والصومال وجيبوتي وليبيا وتونس وموريتانيا والجزائر وغيرها من الدول الأفريقية.
وأثناء الحرب المتواصلة على قطاع غزة لم تتوقف محاولات التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية، وبدت المحاولات أكثر عمقاً وقد اُسند التحرك هذه المرة للموساد الذي قاد الاتصالات مع عدة دول أفريقية مستغلاً ظروفها السياسية والاقتصادية في مسعى منه لقبول هذه الدول بمخطط تهجير سكان قطاع غزة وفشلت المحاولة وأجهضت المساعي وتمددت المقاطعة الأفريقية الرسمية والشعبية لـ"إسرائيل" المطلوب رئيس وزرائها لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. واصطدمت التقديرات الإسرائيلية تجاه القارة الأفريقية بجدار الرفض والمقاطعة والانحياز لفلسطين وقضيتها وشعبها كقضية تتبناها الشعوب الحرة.
لم تكتف أفريقيا الرسمية والشعبية بالانحياز للقضية الفلسطينية ومنع التمدد الإسرائيلي ومحاصرته بل ذهبت لخطوات مهمة في اتجاه مقاطعة كل ما له علاقة بـ "إسرائيل" حتى وإن بدا بسيطاً وثانوياً لكنه يعكس موقفاً مهماً له ما بعده من التبعات والتداعيات فيما يتعلق بمسألة القبول الأفريقي الشعبي والرسمي بتمدد "إسرائيل" حضورها ووجودها ومنع تمددها.
إن محاصرة "إسرائيل" ومقاطعتها أفريقياً لم تعد مقتصرة على المواقف الرسمية والشعبية، ومواجهتها ومنع تمددها لم يعد مقتصراً أو مختصراً في التظاهرات المنددة بجرائمها من جهة؛ والداعمة والمنحازة للقضية الفلسطينية ومظلوميتها من جهة أخرى.
آخر مظاهر محاصرة "إسرائيل" ومقاطعتها جاءت من غانا؛ عندما طالب ائتلاف غاني بإلغاء مهرجان سينمائي إسرائيلي تضامناً مع غزة، وقد أطلق ائتلاف يضم نحو 400 شخصية غانية بارزة حملة واسعة تطالب بالإلغاء الفوري لمهرجان الأفلام الإسرائيلي، المقرر عقده بين 16 و20 أيلول/ سبتمبر 2025 في سينما "سيلفر بيرد" بمركز "أكرا" التجاري، إيذاناً بانضمام غانا إلى حركة المقاطعة الثقافية العالمية بسبب الحرب على غزة.
المطالبة بإلغاء المهرجان السينمائي الإسرائيلي في غانا لا تبدو موقفاً طارئا أو عابراً، بقدر ما تعكس تحولاً أصيلاً في المواقف ونُضجاً في الفهم والإدراك والوعي الشعبي الأفريقي بمخاطر وحقيقة التوحش الإسرائيلي، وهذه نقطة تسجل لمصلحة القضية الفلسطينية وروايتها في مواجهة الرواية الإسرائيلية.
وقد جاء في بيان الائتلاف الغاني الذي يضم منظمات مجتمع مدني وفنانين وأكاديميين وطلاباً وقادة دينيين ومواطنين بارزين، إن المهرجان يمثل "حدثاً دعائياً صهيونياً" يهدف إلى "تبييض صفحة الإبادة الجماعية والفصل العنصري" في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة.
وفي تحول من ردة الفعل إلى الفعل ومن الاكتفاء بالتنديد إلى التحرك الفاعل والمؤثر والسير نحو المبادرة جاء في البيان: "لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي بينما تُسوّى إبادة الفلسطينيين من خلال الفن والثقافة. لطالما وقفت غانا إلى جانب المضطهدين. واليوم، يجب أن نقف إلى جانب فلسطين"، مستشهداً بتاريخ غانا في التضامن ضد الاستعمار.
وقد حظيت الحملة بدعم شخصيات مؤثرة في غانا، بينهم صحافيون وقضاة وفنّانون. ووضع المنظمون خطة تشمل اعتصاماً سلمياً في سينما "سيلفر بيرد" خلال أيام المهرجان، إلى جانب مقاطعة للرعاة والشركاء، وحملات توعية عامة واسعة، وجهوداً دولية لتعبئة التضامن مع الفلسطينيين.
ولأن الشعوب مُلهمة بعضها لبعض، لم يقتصر تمدد مقاطعة الشعوب الأفريقية لـ"إسرائيل" على غانا، وتمددت المقاطعة لواحدة من أهم الدول ذات العلاقة مع "إسرائيل"؛ إلى المغرب وقد أعلنت منظمة المرأة التابعة لحزب العدالة والتنمية المغربي في 17 أيلول/ سبتمبر 2025؛ مقاطعة "المنتدى العالمي للنساء من أجل السلام"، المنعقد في الصويرة من 19 إلى 21 سبتمبر/أيلول، احتجاجاً على مشاركة ممثلات إسرائيليات فيه وحثّت المنظمة، المنظمات النسائية والمدافعات عن حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني في المغرب وخارجه على رفض المشاركة في فعالية تطبيعية.
ودعت إلى المشاركة الفاعلة في المبادرات الداعمة لفلسطين والمناهضة للتطبيع مع "إسرائيل". وأكدت أن هذه الخطوة تُشرعن "حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني في غزة وفي أنحاء فلسطين". وأشارت إلى أن "مشاركة ممثلين إسرائيليين تعد إهانة صارخة لضمير الشعب المغربي وكل الشعوب الحرة في العالم".
ألهمت مقاطعة ائتلاف غانا للمهرجان السينمائي الإسرائيلي معظم الشعوب الأفريقية لمظهرين مهمين جداً، الأول: رفض أي حضور أو تمدد إسرائيلي في أفريقيا ومقاطعته ومحاصرته ولو كان فنياً سينمائياً؛ والثاني: الانحياز للقضية الفلسطينية والدفاع عنها ونُصرتها ورفض الجرائم الإسرائيلية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة والقدس والضفة الغربية والداخل المحتل.
تمدد المقاطعة الشعبية الأفريقية لـ"إسرائيل" من المغرب إلى السنغال الذي تحافظ جماهيره على الخروج والتظاهر دعماً لفلسطين وقضيتها ورفض الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في غزة، مروراً بنيجيريا التي تشهد أكبر تظاهرات شعبية داعمة ومساندة للقضية الفلسطينية وصولاً إلى تونس التي انطلق من موانئها أسطول الصمود ولم تثنِه ولم ترهب المشاركين فيه المُسيّرات الإسرائيلية التي استهدفت مرتين متتاليتين سفنه وقواربه.
وقد تزامنت الحملة الغانية مع حركة عالمية أوسع في صناعة السينما، حيث وقّع أكثر من 4000 شخصية بارزة، بينهم نجوم من هوليوود، على تعهدات بمقاطعة مؤسسات السينما الإسرائيلية بسبب اتهامات بتواطؤها في الإبادة الجماعية والفصل العنصري.
إن ما يحدث على صعيد تمدد المقاطعة الشعبية الأفريقية لـ"إسرائيل" ليس ظاهرة عابرة بقدر ما يعكس وعياً حقيقياً وإدراكاً شاملاً بطبيعة كيان الاحتلال وجرائمه، وإن هذه المقاطعة لم تعد مقتصرة على شعب بعينه أو دولة معينة، بل باتت مظاهر الرفض والمقاطعة والتنديد بالجرائم الصهيونية تتمدد في معظم القارة الأفريقية.
وسيكون لها ما بعدها وإن استمرار الجرائم الإسرائيلية يؤكد بأن هذا الرفض الشعبي الأفريقي لـ"إسرائيل" لن يتوقف ولن يكتفي بالشجب والاستنكار والمقاطعة بل قد يتطور إلى الفعل من خلال استهداف المصالح والوجود الإسرائيلي في أفريقيا.
وهذا ما رصده بعض التقارير والتقديرات الأميركية التي خلصت إلى أن "إسرائيل" تخسر تدريجياً الدعم الذي كانت تحظى به من بعض الدول الأفريقية بسبب الحرب على غزة، ووفقا لموقع "ريسبونسيبل ستيت كرافت" الأميركي، رغم أنه يصعب التعميم بشأن الرأي العام الأفريقي، خاصة في ظل غياب بيانات استطلاعات الرأي على مستوى القارة فيما يتعلق بحرب غزة، إلا أن ردود فعل الحكومات الأفريقية، تشير إلى أن معظم تلك الحكومات، والأحزاب السياسية الأفريقية الرئيسية، وقطاعات كبيرة من الجماهير الأفريقية متعاطفة مع القضية الفلسطينية، وتشعر بالصدمة، إزاء الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية في مدينة غزة.