عن حدود لبنان مع الشيشان

لبنان مكشوف أمنيًا على الحدود الشرقية، ومهدّد داخليًا بانقسامات عمودية، وخارجيًا بالتهميش، بينما تخترقه التصريحات والمواقف المتضاربة من كل جهة. 

0:00
  • لبنان مكشوف أمنيًا على الحدود الشرقية.
    لبنان مكشوف أمنيًا على الحدود الشرقية.

على امتداد الحدود الشرقية للبنان، يتعاظم خطرٌ أمنيّ لا يلقى بعدُ الاهتمام السياسي والإعلامي الكافي. تشير تقارير أمنية متقاطعة ومشاهدات ميدانية إلى تزايد انتشار مجموعات مسلّحة غير سورية الهوية في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، وتحديدًا في جرود القلمون والقصير، حيث يتمركز مقاتلون شيشانيون وأيغوريون يرتبطون تنظيميًا بتنظيمات تكفيرية عابرة للحدود.

هؤلاء ليسوا مجرد فلولٍ هاربة من معارك الشمال السوري، بل يشكل وجودهم جزءًا من مخطط استراتيجي لإبقاء بيئة المواجهة مفتوحة في المشرق، ونقل التوترات الطائفية إلى مناطق رخوة أمنيًا كالبقاع الشمالي.

السلطات اللبنانية مطّلعة على هذا التمدد، وتتعامل معه حتى الآن بمنطق الاحتواء الصامت والحذر والترقب الميداني، وتخشى الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة على ضوء جهوزية غير معروفة القدرة في ما يتعلق بالتعامل الميداني مع مجموعات مدربة ومموّلة. 

الجيش اللبناني يعاني من ضغوط مالية وتسليحية، والقوى الأمنية تتوزع المهمات الداخلية في ظل انقسامات سياسية. ولعلّ السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يملك لبنان خطة واضحة للتعامل مع اقتحام محتمل من هذه المجموعات انطلاقًا من الحدود الشرقية؟ أم أن الوضع سائر نحو تكرار سيناريو 2014 عندما اجتاح مسلحون من "النصرة" و"داعش" بلدة عرسال وكادوا يبتلعون البقاع بأسره؟

هذا التهديد الوجودي للكيان اللبناني يعيد ترتيب الأولويات الوطنية، ويضع موضوع “المقاومة” في إطار جديد. فبينما ينشغل جزء من الخطاب العام بسحب سلاح حزب الله، يطرح الواقع سؤالًا أكثر واقعية: هل الوقت الآن مناسب لفتح هذا النقاش؟ ليس من باب تبرير الاحتفاظ بالسلاح خارج الدولة، بل من منطلق أن أيّ محاولة لنزع سلاح المقاومة من دون خطة دفاعية بديلة ومتكاملة، ستكون بمنزلة تجريد لبنان من آخر عنصر ردع في وجه أخطار حقيقية على حدوده.

لقد بيّنت التجربة أن كل فراغ أمني في لبنان، سواء كان في المخيمات الفلسطينية أو في الجرود الحدودية، يملؤه التطرف أو العدو الإسرائيلي أو أجندات إقليمية عابرة للسيادة.

في هذا السياق، تبرز مواقف الزعيم وليد جنبلاط التي أثارت مؤخرًا جدلًا واسعًا حين أعلن أن مزارع شبعا ليست لبنانية، بل سورية. هذا التصريح، الذي يبدو لأول وهلة قراءة قانونية للحدود، يحمل في عمقه مؤشرات على تغيّر النظرة الجيوسياسية لبعض النخب اللبنانية تجاه الصراع مع "إسرائيل" والحدود المتنازع عليها. 

إنكار لبنانية المزارع في هذا التوقيت، يعني عمليًا القبول الضمني بإمكانية إخراج هذه المنطقة من دائرة النزاع اللبناني- الإسرائيلي، وربما إدخالها ضمن أي تسوية إقليمية قادمة تفرضها "تل أبيب" على دمشق. 

الخشية الأكبر أن يكون هذا الطرح مقدّمة لتنازل سوري محتمل عن المزارع ضمن صفقة تطبيع إقليمي أوسع، تخرج فيها المزارع من خانة الأرض المحتلة وتُسلّم لـ"إسرائيل" تحت غطاء “سوري”.

التاريخ القريب ينبّهنا إلى خطورة التهاون في هذا الملف. ففي عام 2000، ومع انسحاب الاحتلال الإسرائيلي جزئيًا من جنوب لبنان، بقيت مزارع شبعا تحت الاحتلال بحجة غياب الترسيم السوري- اللبناني، وتحوّلت منذ ذلك الحين إلى سبب مشروع لاستمرار السلاح المقاوم، كما تحوّلت إلى عقدة دائمة في خطاب الشرعية الدولية. 

إذا ما تخلّت النخبة السياسية عن هذه الورقة اليوم، فإن لبنان سيخسر واحدة من أوراق قوته القليلة المتبقية، في وقت يترنح فيه اقتصاديًا وأمنيًا.

المشهد إذاً شديد التعقيد. لبنان مكشوف أمنيًا على الحدود الشرقية، ومهدد داخليًا بانقسامات عمودية، وخارجيًا بالتهميش، بينما تخترقه التصريحات والمواقف المتضاربة من كل جهة. 

المرحلة الراهنة تتطلب أكثر من مجرد بيانات إعلامية أو تجاذبات سياسية. إنها تتطلب موقفًا وطنيًا واضحًا يضع الأمن القومي فوق كل اعتبار، ويحدد بجرأة طبيعة التهديد، ويمنع أي مقايضة على الأرض والسيادة، لا في شبعا ولا في البقاع.