ضربة الدوحة: نتنياهو يهندس "اليوم التالي" بإقصاء قطر ومصر
استباحة سيادة قطر، الحليف الاستراتيجي لواشنطن، لم تكن ليحدث لولا ضوء أخضر أميركي، ما يكشف حقيقة مرة: التحالفات الاستراتيجية ووعود الحماية الأميركية ليست إلا أكذوبة عندما تتعارض مع مخططات أكبر.
-
إقصاء قطر: تحويل الوسيط إلى عدو.
في عالم السياسة الواقعية، لا توجد قرارات عسكرية مجردة من الأهداف السياسية. وبعد ما يقارب عامين من الصدمة التي أحدثها هجوم السابع من أكتوبر، جاءت الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادة حماس في الدوحة لتكون مثالاً فجًا على هذه الحقيقة.
لم تكن هذه العملية مجرد تصفية حسابات أمنية مؤجلة، بل كانت بمنزلة انقلاب دبلوماسي عنيف، خطه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليس فقط لإعادة رسم قواعد اللعبة، بل لتحديد من هم اللاعبون المسموح لهم بالبقاء على الطاولة مع اقتراب النهاية.
تأتي هذه الضربة في سياق سياسي مشحون. فعلى مدى سنوات، مثّلت قطر بالنسبة لإسرائيل معضلة مزدوجة: من جهةٍ، قناة مالية "شرعية" مكّنت من إدخال الأموال إلى غزة تحت رعاية أميركية وإسرائيلية مباشرة، ومن جهة أخرى، متهم رئيسي بتعزيز قوة حماس سياسياً ودبلوماسياً. فبين 2012 و2018 وحدها، ضخت الدوحة أكثر من 1.1 مليار دولار في غزة، بل إن التحويلات الشهرية قبل الحرب الأخيرة راوحت بين 10 إلى 15 مليون دولار نقدًا، دخلت عبر "حقيبة الأموال" التي سمحت بها حكومة نتنياهو.
لكن هذه السياسة، التي سوّقت كوسيلة "لاحتواء حماس"، ارتدت ككارثة استراتيجية في وعي الجمهور الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، حيث اتُهم نتنياهو بأنه وفّر عمليًا لحماس البنية التحتية المالية التي مكّنتها من التخطيط للهجوم.
وما زاد الطين بلة، تفجر قضية "قطر غيت" التي طالت شخصيات بارزة من محيط مكتب نتنياهو، ما عزز الانطباع الشعبي بأن قطر لم تكن مجرد وسيط، بل صاحبة نفوذ داخل دائرة صنع القرار في "إسرائيل".
من هنا، لم تعد الضربة مجرد خيار عسكري، بل ضرورة سياسية لنتنياهو تهدف إلى تحويل السردية من الفشل إلى النصر، والأهم من ذلك، تمهيد الطريق لفرض رؤية إسرائيلية أحادية لمستقبل غزة.
مع اقتراب الحرب من نهايتها العسكرية المحتملة، يصبح السؤال الأهم هو: من سيرسم ملامح "اليوم التالي"؟ هنا تبرز الأهمية الاستراتيجية القصوى لتوقيت ضربة الدوحة. فهي من جهة تغلق الطريق على أي حل سياسي_المقترح الذي وافقت عليه حماس_، وتمنح الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي لتدمير واحتلال مدينة غزة من خلال عملية "مركبات جدعون 2"، ومن جهة أخرى، لم تكن الضربة موجهة ضد حماس فقط، بل كانت مناورة سياسية لإعادة هيكلة طاولة المفاوضات المستقبلية عبر إقصاء الوسيطين العربيين الرئيسيين: قطر ومصر.
1. إقصاء قطر: تحويل الوسيط إلى عدو
كانت الخطوة الأولى والأكثر وضوحاً هي تحييد قطر. فمن خلال استهداف قيادة حماس على أراضيها، أجبرت "إسرائيل" الدوحة على اتخاذ موقف متشدد، ما يجعل من المستحيل عليها الاستمرار في لعب دور الوسيط المحايد.
بهذا، تم سحب ورقة الوساطة القطرية من الطاولة بشكل نهائي، وتحويل قطر من لاعب محوري في المفاوضات إلى طرف مصنف في "خانة الأعداء" من المنظور الإسرائيلي.
2. إقصاء مصر: رسالة النار والتهديد المبطن
لم تكن مصر بمنأى عن رسائل الضربة. فمن خطط لضربة الدوحة يدرك أن الرد المصري سيكون قوياً على انتهاك سيادة دولة عربية، لكن الأخطر من ذلك هو الرسالة المبطنة التي حملها خطاب نتنياهو باللغة الإنجليزية،بعد الضربة، حين أكد: "لقد ولّت الأيام التي كان يتمتع فيها زعماء الإرهاب بالحصانة من أي نوع".
هذا التهديد لم يكن موجهاً للدوحة فقط، بل كان موجهاً بشكل مباشر إلى القاهرة، التي تستضيف بدورها بعض قيادات حماس. هذا التهديد يضع مصر في موقف حرج، ويقوض قدرتها على العمل كوسيط مستقل، ويدفعها إما إلى التراجع عن دورها أو الدخول في مواجهة دبلوماسية. في كلتا الحالتين، يتحقق هدف نتنياهو بإضعاف أو إقصاء الوسيط المصري.
بإقصاء قطر وتهميش مصر، ينجح نتنياهو في "إخلاء" المشهد الدبلوماسي من أي صوت عربي مؤثر يمكن أن يفرض تسوية لا تخدم المصالح الإسرائيلية المتطرفة. هذا يترك الساحة خالية لوسيط واحد فقط: الولايات المتحدة الأميركية، وبالتحديد، الأفكار التي طرحها الرئيس دونالد ترامب، والتي تحولت إلى خطة مكتملة الأركان على أيدي شخصيات مثل "توني بلير" و"جاريد كوشنر" حول "اليوم التالي". هذه الخطة، التي تلقفتها حكومة نتنياهو بترحيب، لا تهدف إلى حل سياسي، بل إلى فرض واقع جديد يخدم حلمين رئيسيين:
١. حلم الصهيونية الدينية: استكمال السيطرة على "أرض إسرائيل التوراتية" عبر إعادة استيطان غزة، وهو طموح أيديولوجي عميق لدى اليمين الديني الحاكم في "إسرائيل".
الحلم الإسرائيلي الأكبر: تحقيق "حل" ديمغرافي عبر تهجير الفلسطينيين من غزة، سواء بشكل قسري أم عبر جعل الحياة فيها مستحيلة، ما ينهي "المشكلة السكانية" في القطاع بشكل نهائي.
لم تكن ضربة الدوحة مجرد عملية عسكرية، بل كانت انقلاباً دبلوماسياً لفرض رؤية إسرائيلية-أميركية لـ "اليوم التالي". من السذاجة الاعتقاد بأن "إسرائيل" تدير واشنطن؛ فالعكس هو الصحيح. إن استباحة سيادة قطر، الحليف الاستراتيجي لواشنطن، لم يكن ليحدث لولا ضوء أخضر أميركي، ما يكشف حقيقة مرة: التحالفات الاستراتيجية ووعود الحماية الأميركية ليست إلا أكذوبة عندما تتعارض مع مخططات أكبر.
إن هذا التغول الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، هو إنذار لكل عاصمة عربية بأن أمنها وسيادتها أدوات قابلة للتداول.
لم يعد الأمر يتطلب موقفاً موحداً دفاعاً عن غزة، بل صحوة استراتيجية لمواجهة حقيقة أن المنطقة يُعاد تشكيلها قسراً، وأن الاعتماد على "الحليف" الأميركي هو مشاركة في تفكيك الأمن القومي العربي.