صواريخ "أتاكمز": بين مجازفة بايدن ورد فعل "القيصر"
المجازفة الأميركية ستنفجر في وجه أوكرانيا ونظامها النازي أولاً، ولن تؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر الفادحة والكارثية التي مُنيت بها نتيجة استخدامها كوكيل للحرب الهجينة التي يشنها الغرب على روسيا.
ليست المفاجأة أن تعلن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن منحها الإذن لكييف لاستخدام الصواريخ الأميركية البعيدة من نوع "أتاكمز" لاستهداف عمق الأراضي الروسية، ما يبعث على المفاجأة والشك في آنٍ معاً هو التوقيت الذي اختارته إدارة بايدن لإصدار هذا القرار قبل شهرين من تسليمها المفترض للسلطات في البيت الأبيض إلى الرئيس المنتخب الجمهوري دونالد ترامب وإدارته الجديدة، بعد تحقيقه فوزاً كاسحاً في الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل أسبوعين، وانسحاب هذا الفوز على الكونغرس بمجلسَيْه الشيوخ والنواب في حالة نادرة سينتج منها تمركز كامل للسلطات التشريعية و التنفيذية بيد ترامب وفريقه.
يمكن لنا مناقشة الخلفيات التي دفعت إدارة بايدن إلى المقامرة باتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت الحرج، والأهداف المحتملة التي تسعى لتحقيقها في إطار اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم و الداخل الأميركي معاً على حدٍ سواء، والتي يمكن اختصارها بالآتي:
أولاً؛ إن لجوء إدارة بايدن في هذا التوقيت لمنح أوكرانيا الإذن لضرب العمق الروسي بصواريخ "أتاكمز" بعيدة المدى، على الرغم من تحذيرات روسيا السابقة، يهدف إلى تكثيف الصراع على مدى الشهرين المقبلين قبل إعادة تنصيب ترامب حتى يرث وضعاً أكثر صعوبة مما هو عليه الآن، يدفع به إلى تبني موقف أكثر تشدداً بشأن الصراع الذي يشنّه الغرب بالوكالة ضد روسيا عبر أوكرانيا، وخصوصاً أن ترامب أعلن صراحة خلال حملته الانتخابية أنه سينهي الصراع في أوكرانيا مع روسيا في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض.
ثانياً؛ في ظلّ ما أعلنه ترامب من رغبته في إنهاء الصراع، ومع خشية إدارة بايدن من تمكن روسيا من استعادة مقاطعة كورسك الروسية بالكامل قبيل انطلاق المفاوضات المحتملة للتهدئة والحل، وبالتالي خسارة أوكرانيا ورقة هامة في التفاوض تقوم على صيغة تبادل الأراضي كانت واشنطن قد سعت إليها عبر رعايتها الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك والاحتفاظ بهذا التوغل إلى وقت مفاوضات الحل، وبالتالي تريد واشنطن من كييف استهداف القوات الروسية المتقدمة بهذه المقاطعة، مبررة ذلك بوجود قوات من كوريا الشمالية فيها تقاتل إلى جانب القوات الروسية.
ثالثاً؛ من غير المستبعد أن يكون الهدف هو استفزاز روسيا ودفعها إلى استخدام السلاح النووي التقليدي أو التكتيكي ضد أوكرانيا، بما يسهم في خلق المبرر لاستخدام واشنطن أو أحد حلفائها في مناطق أخرى في العالم السلاح النووي ضد إيران، ولعلّه من المفيد أن نتذكر ما قاله بايدن إن "أي محاولة لاغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب ستعدّ عملاً حربياً"، و بالتالي لا نستبعد جنون الدولة العميقة واغتيالها ترامب، تزامناً مع استفزاز روسيا ودفعها إلى استخدام النووي ضد أوكرانيا تمهيداً لقيام واشنطن بعدوان نووي على إيران بعد الدفع بروسيا إلى استخدام النووي في أوكرانيا.
رابعاً؛ تسعى إدارة بايدن إلى توريط أوروبا في صراع مباشر مع روسيا يلزم إدارة ترامب المقبلة بمزيد من التحالف مع أوروبا، والتمسك بـ"الناتو" كخيار استراتيجي لواشنطن، في ظل تخوف إدارة بايدن من قيام إدارة ترامب بالانسحاب من الحلف.
خامساً؛ ربما تخطط إدارة بايدن لاندلاع حرب واسعة نووية أو غير نووية على الصعيد العالمي لتجعل من ذلك سبباً كافياً لإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في الولايات المتحدة بهدف منع ترامب من تسلم السلطة، وإبقائها بيد بايدن قبل تغييبه ونقلها لاحقاً إلى نائبته كامالا هاريس التي تمثل الواجهة الأكثر ليبرالية للدولة العميقة.
ردّ الفعل الروسي
في مقابل تلك المجازفة الأميركية المتهورة وأهدافها المبيتة، لا بد من استقراء ردود الفعل الروسية المحتملة، والتي ظهر بعضها للعلن بشكل أولي، سياسياً وميدانياً، بعد تقارير تحدثت عن قيام القوات الأوكرانية بالفعل بتنفيذ ضربات داخل الأراضي الروسية بواسطة الصواريخ الأميركية "أتاكمز"، وشملت ردود الفعل الأولية مواقف صدرت عن نواب و سياسيين روس حذروا فيها من اندلاع حرب عالمية ثالثة، فيما ذهب البعض إلى القول بأن القرار الأميركي يشكل سبباً كافياً يسمح لروسيا اعتبار الولايات المتحدة و الدول الغربية التي تتبنى القرار ذاته أطرافاً مباشرين بالصراع الدائر.
وبعد صدور القرار الأميركي، اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يوقع على مرسوم تحديث العقيدة النووية لروسيا بعد أسابيع من دعوته إلى إجراء تعديلات عليه بما يحقق الردع لروسيا وحلفائها في وجه أعدائها، سواء جرى استهداف الأراضي الروسية بأسلحة تقليدية أو نووية.
وصحيح أن الولايات المتحدة والغرب الجماعي سعوا لاستفزاز روسيا مرات عديدة عبر وكيلهم الأوكراني طوال 1000 يوم من عمر الحرب الأوكرانية، وشملت تلك الاستفزازات التوغل داخل الاراضي الروسية، واستهداف الكرملن، و القصف بالمسيرات الذي طال العمق الروسي، وتفجير خط الغاز "نورد ستريم"، وإغراق الطراد العسكري الروسي "موسكافا" في البحر الأسود، فإن من المتوقع كما في المرات السابقة أن يحافظ الرئيس الروسي بوتين على هدوئه لتجنب مواجهة شاملة ومباشرة مع الغرب الجماعي، ما دام سير المعارك على الأرض في صالحه، يوماً بعد يوم، وتحقق قواته تقدماً ملحوظاً على الأرض. وإلى جانب اللجوء إلى استخدام أسلحة استراتيجية كالصواريخ التقليدية العابرة للقارات المتعددة الرؤوس القادرة على مسح مناطق جغرافية واسعة بما تتضمنه، فإن موسكو يمكن أن تلجأ إلى إنشاء منطقة عازلة في الداخل الأوكراني تصل حتى حدود نهر الدينيبر لمنع صواريخ "أتاكمز" ومثيلاتها الغربية من الوصول إلى الأراضي الروسية، وهو خيار جرى طرحه من قبل موسكو سابقاً، كما يمكن لموسكو أن توسع سيطرتها على الواجهة البحرية لأوكرانيا وصولاً إلى أوديسا وإطباق حصار بحري على الأراضي الأوكرانية.
وأيضاً من الخيارات المحتملة التي تحدث عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السابق تزويد خصوم الولايات المتحدة حول العالم في مناطق صراع أخرى بمثل تلك الأسلحة أو ما يفوقها، إذ قال بوتين منذ أشهر بهذا الخصوص: "إذا كان هناك من يرى أن من الممكن توريد مثل هذه الأسلحة إلى منطقة قتال لضرب أراضينا وخلق مشكلات لنا، فلماذا لا يحق لنا أن نورد أسلحة من الصنف ذاته إلى مناطق ستوجّه انطلاقاً منها ضربات إلى مواقع حساسة تعود إلى تلك الدول التي تقوم بمثل هذه الخطوات تجاه روسيا"؟ ومن المعلوم أن الشرق الأوسط يشكل منطقة ملتهبة ومنطقة صراع وتهديدات للوجود الأميركي.
وفي كل الأحوال، فإنه من المرجح أن الخيارات الإستراتيجية والتكتيكية التي ستلجأ إليها موسكو والرئيس بوتين ستكون محدودة بمسارين؛ الأول متعلق بمكانة الردع الروسية و الحفاظ عليها، والثاني متعلق بتفويت الفرصة على إدارة بايدن لتحقيق أهدافها أياً تكن تلك الأهداف، وبالتالي فإنه من المستبعد أن تلجأ موسكو إلى استخدام السلاح النووي التكتيكي وفقاً للظروف الراهنة، وخصوصاً أن لديها القدرة العسكرية والتكنولوجية على تحييد السلاح الأميركي "أتاكمز" ، والذي بطبيعة الحال لن يشكل نقلة نوعية في الصراع لصالح أوكرانيا، بل إن مصيره لن يكون أفضل من مصير الدبابات و العربات والطائرات المسيرة ومدافع "هايمرز" و طائرات "إف16" التي جرى تزويد أوكرانيا بها سابقاً.
وخلاصة القول؛ إن المجازفة الأميركية ستنفجر في وجه أوكرانيا ونظامها النازي أولاً، ولن تؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر الفادحة والكارثية التي مُنيت بها نتيجة استخدامها كوكيل للحرب الهجينة التي يشنها الغرب على روسيا، وكذلك فإن هذه المجازفة ستنفجر في وجه واشنطن التي ستعرض وجودها في الداخل الأوكراني في مناطق عديدة حول العالم للخطر المحدق، سواء من قبل القوات الروسية أو من قبل أعداء واشنطن المتعطشين لتلقي الدعم العسكري الروسي، قبل أن تنفجر تلك المجازفة في الداخل الأميركي الذي يستعد لنقل السلطات من إدارة بايدن إلى ترامب وفريقه الذي بدأ يرفع الصوت في وجه الخطوة المتعجرفة التي اتخذها بايدن.