شهر رمضان.. وافتقاد إطلالة نصر الله

أمثال السيد نصر الله لا يغيبون، إذ نحن بصدد شخصية استثنائية تركت بصمة عميقة في تاريخ المقاومة والسياسة في المنطقة، وقد كان صوته حاضراً في المحطات المفصلية، ومواقفه الثابتة شكلت رمزاً للصمود.

  • شهر رمضان من دون صوت السيد حسن!
    شهر رمضان من دون صوت السيد حسن!

لسنوات عديدة، حرص السيد حسن نصر الله، الأمين العام الأسبق لحزب الله، على إلقاء كلمات أو خطابات خلال شهر رمضان المبارك، يحث فيها جمهورَه على الاهتمام بشؤون المحتاجين والصدقة للفقراء لما لذلك من دور اجتماعي يُعوّض عجز النظام الاقتصادي عن تأمين حياة كريمة لهم، إلى جانب المحتوى السياسي الذي يركز دوماً على تحرير فلسطين والعمل لأجل الخلاص من الهيمنة الغربية.

قبل أسبوعٍ من حلول رمضان 2025، شُيّع السيد حسن نصرالله ومعه خليفته هاشم صفي الدين إلى مثواهما الأخير في مكان تم إعداده خصيصاً لهذا الغرض على طريق المطار في بيروت، وقد شارك مئات الألوف في مشهد الوداع المهيب، الذي أعاد نكأ جراح لم تندمل في قلوب المحبين بيد أنه منحهم الفرصة لذرف دموعٍ حبسوها في صدورهم خمسة أشهر تقريباً.

وكان الشهيدان قد ارتقيا بالتتابع، بين السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024، والثالث من تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته، نتيجة غارات إسرائيلية عنيفة، أرادت من خلالها حكومة الاحتلال كسر شوكة المقاومة في الإقليم بشكل عام عبر اغتيال قادتها. لكنّ المخطط تم إفساده أو على الأقل منعه من تحقيق أهدافه كاملة، عبر أمرين:

الأول، مشهد الوداع العارِم الذي حصل في ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية، أكبر ستاد رياضي في لبنان، على مشارف الضاحية الجنوبية.

والثاني، الضريح الذي يحتضن جسدَي الشهيدين، والذي يلعب الآن دوراً رمزياً ووجدانياً، لا يمكن التغافل عنه، إذ أصبح للمقاومة عنوان عريض داخل بيروت، وسيظل متجذراً وقادراً على الإلهام أكثر وأكثر مع مرور الزمن.

ولعلّ ذلك بالتحديد، ما أزعج "جيش" الاحتلال، ودفع قادته إلى التفكير جدياً في قصف الجنازة، ذلك بحسب ما أفادت القناة 14 الإسرائيلية، نقلاً عن رئيس الأركان الإسرائيلي، المنتهية ولايته هرتسي هاليفي.

شهر رمضان من دون صوت السيد حسن!

جمهور المقاومة، المحبّ لنصر الله، حزينٌ ولا شك، فهناك شعور عام بالحسرة أو إحساس جمعي بأن الأمور لم تسِر كما يجب، العزاء الوحيد أن قضية فلسطين قد عادت إلى الصدارة، وأن الحركات الغزيّة المناضلة صمدت في وجه آلة التوحش الإسرائيلية وأطاحت مخططات بن غفير وسموتريتش، وأن السيّد نصر الله وقبله إبراهيم رئيسي وبعده يحيى السنوار، جميعهم قد ارتقوا شهداء على طريق القدس، أي رحلوا عن الدنيا بأشرف صورة مُمكنة.

في رمضان الفائت، كان قد مضى على عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان إسرائيلي نحو ستة أشهر، وقتها خطب نصر الله في 14/3/2024، تركزت كلمته يومها على جوهر الصراع مع "إسرائيل"، وأن المعركة ممتدة منذ ما قبل ‏‏1948، مشيراً إلى فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه أو التخلّص من الحركات المسلحة داخل القطاع؛ كما أكد أن واشنطن لا تريد إنهاء الحرب، وأن حركة حماس وضعت شرطاً بسيطاً لإنهاء الحرب، هو خروج "جيش" الاحتلال من غزة، ووقف كلي للعدوان، وعودة النازحين من أبناء شمال القطاع إلى أراضيهم.

اللافت أن نصر الله، حينها، أشار إلى أن التعنّت الإسرائيلي هو ما يعطّل التفاوض، وأنّ واشنطن وعدداً من العواصم الأوروبية وبعض الإسرائيليين باتوا على يقين بأن استئصال حركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي أمر مستحيل، وأنه رغم الوحشية والمجازر، سيكون نتنياهو مجبراً على التفاوض والقبول بشروط المقاومة؛ المهم هنا أن نبوءة نصر الله قد تحققت كاملةً مع اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم عقده في منتصف كانون الثاني/يناير 2025، أي بعد أكثر من مئة يوم على استشهاده!.

عند محاولة رصد خطابات السيد نصر الله خلال مواسم رمضان الستة الماضية، أي منذ عام 2018 تقريباً، تجد أنها جميعاً تشترك في العمل على استثمار تلك الطاقة الروحانية العالية، ومن ثم توجيهها إلى السياق الأنسب، بحيث يُثمر النشاط الديني بشكلٍ إيجابي في المجالين الاجتماعي والسياسي، مع فسح المجال لرياضات تزكية النفس، وما يتبع ذلك من معانٍ سامية، تجعل الشخص بعيداً من التغطرس أو حمل الضغائن أو تعمّد إصابة الآخرين بالضرر.

ويمكن رصد العلامات المميزة لخطابات الأمين العام السابق لحزب الله، خلال تلك الفترة، عبر النقاط الآتية:

أولاً، الدعوة الدينيّة التقليدية إلى الإكثار من العبادات، والتوسّع في الدعاء وسؤال الخالق؛ لكن اللافت في هذا السياق تركيز السيّد نصر الله على الأخلاق العامة، وإعطاء الحيّز الأكبر للمسائل المتعلقة بالإنفاق على المحتاجين، وإكرام الأيتام، والعمل الدؤوب على تقديم الغذاء والكساء للشرائح الأقل دخلاً.

ثانياً: تنوّع الخطاب ليشمل العديد من المحاور الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إذ من النادر أن يقتصر خطاب للسيد نصر الله على شق دون آخر، فعلى سبيل المثال، في خطابه بتاريخ 12/4/2022، الذي وافق الحادي عشر من رمضان، أشار نصر الله إلى تاريخ الصراع مع الكيان الإسرائيلي، مُذكّراً بمجزرة دير ياسين التي وقعت في 9/4/1948، ثم انتقل إلى إدانة التدخلات الأميركية في الشأن الداخلي للدول العربية، ومنها لبنان، عبر العمل على تأجيل الانتخابات النيابية.

وفي مثالٍ آخر بتاريخ 22/3/2023 مع اقتراب دخول شهر رمضان، ألقى نصر الله خطابه، الذي كان مخصصاً لنعي القائد في الحزب حسين الشامي، وتطرق فيه إلى أوضاع لبنان الاقتصادية، محذراً من التلاعب في سعر العملة المحلية لصالح الدولار الأميركي، مكرراً دعوته إلى التوجه شرقاً، والانفتاح على الصين وغيرها من الدول، والتفاعل بإيجابية مع المتغيّرات العالمية، والخروج من الفلك الأميركي.

ثالثاً: إحياء يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وهي المناسبة التي دعا إليها مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني في أعقاب انتصار الثورة عام 1979، كيوم للتضامن مع القضية الفلسطينية والإعلان عن رفض الاحتلال الإسرائيلي. وقد واظب السيّد نصر الله على إحياء تلك المناسبة.

ففي عام 2018، ركّز في خطابه على المخططات التي يُعدّها البيت الأبيض بالتعاون مع حكومة الاحتلال للنيل من حقوق الفلسطينيين، خاصة مع اعتراف إدارة دونالد ترامب، إبان فترة رئاسته الأولى، بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وفي عام 2019، لفت السيد حسن إلى أن المقاومة الفلسطينية تطوّرت، بحيث تقترب من معادلة قصف "تل أبيب" مقابل غزة، كما حذّر حينها من خطورة شن حرب ضد طهران، لأن الحرب ستشعل المنطقة، بما يشمل استباحة المصالح الأميركية.

وفي عامي 2020 و2021، ركّزت خطابات نصر الله على أهمية اليقظة والانتباه إلى المخططات الأميركية التي تجري بالتنسيق مع بعض الأنظمة الإقليمية، للحيلولة دون انتشار ثقافة المقاومة بين الشباب العرب، ولاستنزاف الدول التي تتبنى خيارات رفض الهيمنة الأميركية عبر سلاح العقوبات، مؤكداً أن أي مساس بالمقدسات الفلسطينية سيؤدي إلى حرب إقليمية، وأن معركة "سيف القدس" أعادت الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، ووجّهت ضربة قاسية لمسار التطبيع.

أما في عام 2022، فشدّد على أهمية ما يقدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات، مؤكداً قدرة إيران على توجيه ضربة إلى "إسرائيل" مباشرةً، وأنّ مقدمات هذا الأمر تكبر، وهو ما حدث بالفعل خلال عام 2024، أي بعد خطاب السيد نصر الله بعامين!. وفي عام 2023، أعلن عن سقوط الرهان على محور إسرائيلي-عربي ضد إيران، مؤكداً تنامي قدرات المقاومة.

وفي رمضان 2024، بينما كانت المعارك في قطاع غزة مشتعلة، كرّر نصر الله دعمه عملية "طوفان الأقصى" وعمليات جبهات المساندة التي وضعت الكيان الصهيوني على حافة الهاوية، مشدداً على أهمية التشبث بخيار المقاومة رغم الصعوبات، وعدم الالتفات إلى كلام المثبّطين.

حضور لا يغيب

أمثال السيد نصر الله لا يغيبون، إذ نحن بصدد شخصية استثنائية تركت بصمة عميقة في تاريخ المقاومة والسياسة في المنطقة، وقد كان صوته حاضراً دائماً في المحطات المفصلية، ومواقفه الثابتة شكلت رمزاً للصمود والإرادة الحرة.

لن يغيب من يحمل قضية عادلة ويقف إلى جوار شعبه في أصعب الظروف؛ فمهما طال الزمن، يبقَ أثر القادة الكبار في وجدان الشعوب، لأن المبادئ التي يدافعون عنها لا تموت. فالسيد نصر الله ليس مجرد شخصية سياسية، بل هو رمز للمقاومة والكرامة، وصدى صوته سيُلهم الأجيال القادمة لمواصلة طريق الحق والثبات.

ولا شك أن خطاباته لم تكن مجرد كلمات إنشائية تُلقى في المناسبات، بل هي بوصلة توجّه الرأي العام وتواكب تطورات الحاضر، وقد جاءت في لحظات مفصلية لتضع النقاط على الحروف. وفي عالم مليء بالتحديات والتحوّلات، تبقى خطاباته مصدر ثقة، لأنها نبعت من رؤية واضحة ومواقف صادقة. فحضور صوته يعكس ارتباطه الدائم بقضايا أمّته، ويؤكد أن الحكمة والحق لا يغيبان مهما تغيّرت الظروف.