شرق الفرات ومعارك الاستبدال
منذ أن اندلعت الاشتباكات شرقيّ نهر الفرات، بين قوات قسد وقوات مجلس دير الزور العسكري، والأسئلة تتكاثر في مختلف الأوساط، ماذا يحدث هناك؟ وما أهداف هذه الاشتباكات؟ والنتائج المترتّبة عليها؟
تسيطر البنية العشائرية العربية على كامل المنطقة الممتدة من شرق المدن السورية الكبرى (دمشق وحماة وحمص وحلب)، وحتى أقصى الداخل العراقي، وأبعد من ذلك، في مناطق الخليج، وتمتلك هذه العشائر قوانينها الخاصة غير المكتوبة، وهي أقرب للعرف العام المسيطر على توجّهاتها العامة، وتنظيم العلاقات فيما بينها، إضافة إلى العلاقات مع مجتمعات المدن والأرياف.
تتميّز أغلب العشائر الممتدة بين جنوب الحسكة وحتى منطقة البوكمال، على الحدود السورية العراقية، في منطقة شرق الفرات، بأنها أكثر العشائر المرتبطة بعشائر الأنبار، التي خسرت مكانتها في السلطة العراقية، بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ومنها وعبر مناطقها، تدفّق الجهاديون التكفيريون إلى العراق، عندما كانت الأولوية إفشال الاحتلال الأميركي فيه، ومنعه من التوجّه نحو سوريا، مما أسَّسَ لأرضية سهولة نمو التيارات الجهادية التكفيرية شديدة العنف.
على الرغم من النجاح الجزئي بإفشال الاحتلال الأميركي للعراق، وإشغاله عن التوجّه نحو سوريا، إلا أن غض النظر عن الحركات الجهادية، ارتد فيما بعد سلباً على سوريا، فقد استطاع الأميركيون أن يدخلوا إليها، عبر التيارات الجهادية نفسها التي قاتلتهم في العراق، رغم أن 90% من عملياتها استهدفت عراقيين مدنيين وعسكريين، ونادراً ما كانت تستهدف الأميركيين، ثمّ لتدخل بقواتها كقوة احتلال مباشر لما يزيد عن 25% من مساحة سوريا، بحجة مكافحة تنظيم "داعش"، الذي تذهب أكثر الدلائل لتأكيد دورهم في صناعة هذا التنظيم، وتيسير أعماله من جهة، وليكون حجة ضاغطة للتدخّل في كل الدول الذي ينتشر فيها هذا التنظيم.
قد يمثّل المدعو أحمد الخبيل "أبو خولة" نموذجاً للمزاج العام لأغلب أبناء العشائر الموجودة في هذه المنطقة، فهو في بدايات الحرب السورية، برز كقياديّ في مجموعات الجيش الحر، وعندما هزمت هذه المجموعات على أيدي تنظيم "جبهة النصرة"، تحوّل سريعاً لينشط فيه، ثم تحوّل لتنظيم "داعش"، بعد أن اجتاح هذا التنظيم مناطق واسعة من العراق وسوريا، ثم ليتحوّل من جديد إلى قوات "قسد" بعنوان مجلس دير الزور العسكري، برعاية وحماية أميركية كاملة.
عوامل عديدة تداخلت في انفجار المعارك بين مجلس دير الزور العسكري، وبين قوات "قسد"، والذي أخذ بعداً عشائرياً للعرب الموجودين هناك، أولها الحساسيات التاريخية ذات الطابع القومي والسياسات الأيديولوجية، وقد أدّت هذه الحساسيات لاندلاع اشتباكات القامشلى 2004، في إثر مباراة لكرة القدم، بين نادي الفتوة القادم من دير الزور، ونادي الجهاد في القامشلي، مما أدّى إلى مصرع العشرات من الضحايا عدا عن الجرحى.
ازدادت هذه الحساسيات بعد أن استطاعت الولايات المتحدة الدخول إلى سوريا، بحجة محاربة الإرهاب، وملاحقة تنظيم "داعش"، مقابل إنقاذ قوات "قسد" في معارك عين العرب، اجتاحها تنظيم "الدولة"، فهي حجّمت التنظيم الجهادي العربي القومية، ضمن معتقلات وسجون كبيرة، وأتاحت الفرصة للكرد بأن يبرزوا باعتبارهم الرقم الأصعب في هذه المنطقة.
ولم يتوقّف الأمر على منغّصات الموقع السياسي والعسكري، فالأهم منه هو وضع "قسد" يدها على الموارد النفطية والغازية، إضافة إلى القمح، مما جعلها تتحكّم بالمسارات الاقتصادية، التي تُرجمت بازدياد تأثير الموقع السياسي والعسكري لـ "قسد" على ما عداها، الذي انعكس على شكل تهميش للعرب، وتحجيم دورهم وفقاً لرأي أغلب عشائر هذه المنطقة.
العامل الأميركي هو العامل الأقوى بين كل هذه العوامل، فهو المتحكّم الأول والأخير بحدود اللعبة السياسية والعسكرية، وهو الآن في طور إعادة رسم سياسات الاستراتيجية في سوريا، التي عادت كنقطة اهتمام كبرى، في المواجهة الأميركية لما تعتبرها تهديدات حقيقية لمكانة الولايات المتحدة في نظام وحيد القطب، وخاصةً روسيا وإيران والصين، وهي تحتاج لتغيير معتمديها العسكريين في أهم بقعة جيوسياسية حالياً في مشهد الحرب السورية، ومن أجل ذلك فلن تجد خيراً من عشائر هذه المنطقة، بديلاً عن الكرد، وعن قوات "قسد"، لاعتبارات عديدة.
الأول يتعلق بتطمين الأتراك، الذين يعيشون هاجس تجربة كردية يمكنها أن تمتد للداخل التركي، إضافة إلى ما تمنحه هذه التجربة من فرص للأتراك بأن يجتاحوا المزيد من أراضي الشمال السوري، الذي يمكن أن يصل حدوده إلى عمق 70 كم جنوباً، وهم بهذا التعويل على العرب بديلاً عن الكرد، يدفعون بتركيا أكثر للعودة الكاملة إلى التحالف الغربيّ الذي لم تتركه.
الثاني يتعلّق بتصريحات قيادات الكرد السوريين، بأنهم لن يدخلوا في أي مواجهة مع الجيش السوري، ولا مع حلفائه من الروس والإيرانيين، بينما قيادات هذه العشائر العربية لا مشكلة لديها من المواجهة، وهي خاضت تجارب عديدة من المواجهات بعناوين مختلفة، مدفوعة بطمع الموارد النفطية الغازية من جهة، وبعداوة متأصلة تجاه دمشق والدول الصديقة لها، من جراء الاحتلال الأميركي للعراق، على الرغم مما قدّمته لهم سوريا من تسهيلات للدخول إلى العراق، ولا يخلو العامل المذهبيّ لديها من دور كبير، يمنحها بعداً عقائدياً في المواجهة.
الثالث هو إجراء تكامل بين هذه العشائر وامتداداتها في أنبار العراق، فالأميركيون يدركون تمام الإدراك بأن قوات هذه العشائر لا تستطيع وحدها قطع طريق التواصل البري بين العراق وسوريا، والأمر يتطلّب دخول عشائر الأنبار على خطة إنجاح قطع الطريق البري، فبدأت بتنظيم المجموعات المقاتلة في الأنبار، وأولها مجموعات النقشبندية، إضافة إلى مجموعات أخرى، يمكنها الإطباق على الحدود السورية العراقية من الجانبين، وهذا الأمر لا تقدر عليه مجموعات سوريا وحدها.
التحرّك الأميركي متسارع، وقد صدر بيانان يعبّران عن ذلك، الأول بلسان الشيخ مصعب خليل عبود الجدعان الهفل، وهو مقيم في قطر، ويطلب فيه من الولايات المتحدة أن تكون فيصلاً بين القبائل وقسد، والثاني صدر من الشيخ إبراهيم خليل عبود الجدعان الهفل، أيضاً يطلب من الولايات المتحدة، أن تكون الفيصل بين العشائر وقسد، وقد سبق كلا البيانين بعشرين يوماً، أن قام الشيخ أدهم العبود الجدعان الهفل، بزيارة لعشيرة العكيدات في العراق، واستقبل استقبالاً حافلاً، وأُطلق عليه لقب أمير العكيدات، عدا عن ظهور رايات العشيرة، المترافقة بهتافات مضادة لروسيا وإيران.
لم تغِب الولايات المتحدة عن قيادات إيقاعات الاشتباكات في منطقة شرق الفرات، وهي تقود هذه الإيقاعات نحو تثبيت واقع جديد، أقلّ كلفة اقتصادية بحصص النفط، ويعزّز وجود إمارة شبه مستقلة، تتجاوب مع السياسات الأميركية، ولها قدرة على التواصل مع عشائر الأنبار، كما أنها ترضي تركيا بشكل مستمر، باعتبارها أولوية استراتيجية في الصراع الدولي والإقليمي.