سوريا اليوم... معالم ضائعة في ظل انقسام داخلي وتجاذبات دولية
ظروف سوريا الداخلية، وتداخل المشاريع الخارجية فيها، ستشكل في المرحلة المقبلة أسباباً جوهرية لعدم ضمان قدرة السلطة الحالية الحاكمة على ضمان الأمن والاستقرار في كامل مساحة الجغرافيا السورية.
لم يكد اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي يُرخي بتأثيراته على الساحة الإقليمية، لناحية تقييم نتائج الحرب وكيفية قراءتها، حتى اتجهت الأنظار نحو التحرك المفاجئ لجبهة تحرير الشام، التي استطاعت أن تدخل دمشق خلال 12 يوماً، مُسدلةً الستار على حقبة ناهزت 13 عاماً من المواجهة بين نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، وتشكيل معقد من القوى الرافضة لبقائه في الحكم.
بعد مواجهات استمرت منذ عام 2011 بينه وبين موزاييك من الفصائل والقوى، من وطنية وتكفيرية، انتظمت مجموعة من الفصائل تحت قيادة أحمد الشرع، الذي عُرف بالبدايات بأبي محمد الجولاني، والذي تنقل في ولاءاته من القاعدة إلى النصرة، حتى انتظم أخيراً تحت عنوان هيئة تحرير الشام، التي أمكن وصفها في مراحلها الأخيرة بتنظيم متحور من القاعدة، يدين بالولاء أيديولوجياً لهذا التنظيم الأخير، مع ملاحظة التباين من خلال حصر إطار عمله في الجغرافيا السورية، ورفض نظرية الجهاد العالمي، بحيث نجح أخيراً، مستفيداً من تقاطع المصالح التركية والأميركية والإسرائيلية، ومن لحظة إقليمية ذهبية، من حيث انشغال حزب الله بمعالجة آثار حربه الطاحنة مع الكيان، وانشغال روسيا بأوكرانيا، وفشل الرئيس الأسد في تسييل موازنته لعلاقاته الإقليمية، من خلال رسم حدود علاقاته بالجمهورية الإسلامية بصورة متوازنة مع الدول العربية، في تحقيق اختراق على مستوى العملية السياسية الداخلية، التي أقرها القرار 2254 عام 2015، وأكدها فيما بعدُ مسار أستانة، الذي انتظم عام 2017، وضم روسيا وتركيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولأن محاولة البحث في الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة الدراماتيكية لم تعد ذات أهمية قصوى في هذه اللحظة، لأنها ستفتح الباب على تحليلات لا تؤثر في النتيجة في الواقع الحالي، متمثلاً بسيطرة هيئة تحرير الشام، يمكن عدّ إمكان البحث في النتائج التي ترتبت وستترتب على هذا الحدث، الذي وصفه البعض بأنه يتخطى في أهميته كل ما تعرضت له المنطقة من هزات، ذا أهمية ملحة، بحيث إن تأثيرات سقوط نظام الرئيس الأسد لا تنحصر في حدود الدولة السورية، وإنما تتعداها لتطال مجمل الفاعلين الدوليين والإقليميين في المنطقة.
وقبل أن يتمكن الباحث من التقاط العوامل التي ستؤثر في محاولات قراءة المشهد في سوريا، بحيث بدا أن الجانب التركي أخذ على عاتقه مهمة توجيه جبهة تحرير الشام وإدارة تحركها، جاء العدوان الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، والذي استهدف تدمير مقدرات الجيش السوري الاستراتيجية، بالتوازي مع توغلها في عمق الأراضي السورية، ليرسم إطاراً جديداً لمشهد لا توحي ملامحه باتفاق القوى الفاعلة في المشهد السوري بشأن النتائج النهائية المتوخاة منهم، من دون أن نتجاهل الموقف الأميركي المتمسك بوجوده العسكري في الشرق السوري.
في إطار التحليل، ظهر واضحاً أن التخلص من النظام السوري، الذي شكل أحد أقطاب محور المقاومة، كان موضع اتفاق بين القوى الثلاث الفاعلة في سوريا اليوم. فإذا كان كانت الدوافع الأميركية والإسرائيلية في هذا الإطار مفهومة، بحيث إن عداء نظام الأسد للطرفين كان عقائدياً، فإن محاولة البحث في الدوافع التركية لا تحتاج إلى كثير من الجهد، على رغم غموضها ومحاولة إِخفاء حقيقتها.
فالبحث التركي في كيفية استعادة التاريخ من خلال التوسع في دول الجوار، مستنداً إلى ما يُعرف بالميثاق الملي أو محاولة إرساء حكم إسلامي يسترشد فيها بالتجربة التركية ويلائم توجهاتها، يجد متطلباته في سوريا، بحيث تتوافر بيئة مذهبية باتت بعد عام 2011 مقتنعة بأن من يتحكم فيها هو نظام لا يلائمها.
في هذا الإطار، تُفترض الإشارة إلى نقاط التباين بين المشروعين الأميركي والإسرائيلي، من جهة، والتركي، من جهة أخرى، بحيث إن المشروع الأميركي الإسرائيلي يفترض الانطلاق من ضرورة التعاطي مع الواقع السوري، وفق نظرية "إما الهيمنة وإما الفوضى".
وبالتالي، يتعارض هذا التوجه مع التوجه التركي، بحيث يفضل الأخير رعاية النظام الحالي تحت مسمى الوحدة السورية، في حين يفضل الأول تكريس فكرة تقسيم الدولة السورية وإثارة الفوضى والاقتتال شرطاً لازماً يمكّنه من بسط سيطرته ونفوذه على الواقع الإقليمي.
فمن خلال العمل على تقسيم الجغرافيا السورية، ستتقاطع المصالح الإسرائيلية والأميركية لناحية تحقيق الحلم الإسرائيلي بضم أجزاء حيوية من الدولة السورية، انطلاقاً من الجولان والقنيطرة، وصولاً إلى الفرات، مع المشروع الأميركي الذي يعتقد أن دولة كردية في سوريا، عند حدود العراق، ستساعد على بناء حاجز يمنع التواصل البري بين الجمهورية الإسلامية والعراق، من ناحية، وبين حزب الله، من ناحية أخرى، من دون أن ننسى أثر قيام دولة كردية في سوريا في الأمن القومي والأمن المجتمعي في كل من الجمهورية الإسلامية والعراق والدولة التركية.
من ناحية أخرى، وعلى مستوى الداخل السوري بالتحديد، تُظهر خريطة النفوذ، إقليمياً ومحلياً، في سوريا، عدمَ إمكان تحقيق هيئة تحرير الشام حلم فرض النفوذ على كامل التراب السوري على نحو قد يؤدي، في أي لحظة، إلى اندلاع مواجهات مذهبية قد تشكل، في حد ذاتها، حرباً بالوكالة بين أطراف تتوافق فقط على فعل إسقاط نظام الرئيس الأسد من دون أن تقدم أي إشارة إلى توافق على الخطط المستقبلية للمنطقة.
بالطبع، يُفترض عند التفكير في هذه الفرضية ألّا تُهمَل مشاكل سوريا المستقبلية، لناحية البحث في كيفية صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس نظاماً يجمع كل تناقضات البلد، ويعبر عن نقاط التلاقي، إن وُجدت، لشعب مزقته الحروب وتغلغلت فيه بذور الانقسام الاجتماعي والتطرف.
وعليه، على رغم تصويب المنظومة الإعلامية، التي تديرها قوى النفوذ الإقليمي في سوريا، على إيجابيات التحرك المفاجئ لهيئة تحرير الشام نحو دمشق، والذي تم تظهيره على أنه أنهى الأسباب التي قادت الشعب والدولة في سوريا إلى البؤس والشقاء والاقتتال، على نحو دام أكثر من عقد من الزمن، فإن الواقع السوري يفتقد، حتى اللحظة، مقومات النهوض التي قد تساعد على تحقيق الأهداف التي أعلنتها الهيئة كدافع لحراكها.
فالتركيز على أن النظام السابق يتحمل المسؤولية الكاملة عن تردي الأوضاع في سوريا لم يكن إلا نتاج حملة إعلامية نظمتها القوى المناهضة لهذا النظام، بحيث إن محاولة القفز حالياً فوق الأسباب الخارجية التي أدت إلى أزمة عام 2011، إن كانت ساعدت اليوم على إسقاط النظام، فإنها لن تساعد على عملية بناء دولة يطمح إليها المواطن في سوريا، بحيث إن الأطراف الفاعلة اليوم تفترض عدم إمكان تحقيق مشروعها الإقليمي من دون إرساء واقع يلائمها في سوريا.
وعليه، يمكن القول إن ظروف سوريا الداخلية، وتداخل المشاريع الخارجية فيها، ستشكل في المرحلة المقبلة أسباباً جوهرية لعدم ضمان قدرة السلطة الحالية الحاكمة على ضمان الأمن والاستقرار في كامل مساحة الجغرافيا السورية، على نحو يؤدي إلى خلاصة، مفادها أن سوريا المستقبل تفتقد، حتى اللحظة، مقومات الاستقرار والوحدة، ومرتكزات السيادة الضرورية لبناء الدولة ذات الوحدة المجتمعية والسلم الداخلي.