سقوط دولة أم تفكّك محور!
ما حدث في سوريا من تطوّرات وتحوّلات، يحتاج إلى بعض الوقت حتى نحكم عليه بشكل كامل، وإن كنا نعرف منذ اليوم الأول للحراك الذي بدأ قبل أكثر من عقد من الزمان أنه لن يكون في صالح أمتنا العربية والإسلامية.
ربما يبدو من المكابرة وتجميل الواقع أن نصف ما جرى في سوريا من أحداث دراماتيكية خلال الأيام الأخيرة بأنه أمر عادي، أو أنه كان ممكناً ومُتوقعاً، سواء من حيث التوقيت أو الظروف والملابسات، إذ إن ما جرى من تحوّلات وتغيّرات ميدانية وسياسية بهذه السرعة الفائقة يشبه إلى حدٍّ بعيد الزلزال بكل ما للكلمة من معنى، وستكون له من دون أدنى شك تداعيات كارثية وهائلة على عموم المنطقة والإقليم، وخصوصاً على دول محور المقاومة وجماعاته.
ربما أكون، حسب رأي البعض، متشائماً أكثر من اللازم، وربما يرى البعض الآخر أن التغيير سنّة إلهية معمول بها في كل الأزمنة السابقة، وتطال الجميع الصالح منهم والطالح، وهذا الرأي يمكن أن يكون صحيحاً في ظروف معينة ولا جدال في ذلك، بيد أن حقيقة ما جرى في سوريا في هذا التوقيت بالذات يخضع لعوامل أخرى أكثر تعقيداً، وهو نِتاج عمل متواصل ومستمر منذ أكثر من اثني عشر عاماً، استخدمت فيه القوة العسكرية "الهجينة" المدعومة من كل قوى الشر في العالم، إلى جانب مئات المليارات من الدولارات التي تكفّلت بدفعها ممالك وإمارات ودول فاسدة ومجرمة وديكتاتورية، إلى جانب مئات الآلاف من المضلّلين والمخدوعين والتكفيريين والمأجورين، الذين جيء بهم من كل أصقاع العالم لتنفيذ أجندات أميركا و"إسرائيل"، وإلى جانبهما بعض دول الإقليم التي ما زالت تعيش وهم الإمبراطورية الغابرة.
وحتى لا يُفهم كلامي خطأً، فأنا لا أقصد هنا من كان يعارض سياسات الدولة السورية بالطرق الشرعية والقانونية، ولا من كان يحمل تصوّراً مخالفاً لتصوّر النظام السابق، سواء في ما يخصّ شكل الحكم، أو في ما يتعلّق بتحالفات النظام الخارجية ومواقفه الدولية، إذ إن الاختلاف السياسي البعيد عن التخوين والتكفير وخدمة مشاريع الجهات المعادية مشروع ولا لبس فيه، وأي قمع لأصحاب هذا الاختلاف مرفوض ومُدان، بغض النظر عن النظام الذي يقوم به، أو الرئيس الذي يقف خلفه، وإنما أقصد أولئك الذين جاؤوا من الشرق والغرب، باحثين عن الحور العين، وعن الجنة ونعيمها، وبارد شرابها، في بلد كان ينعم باكتفاء ذاتي على خلاف معظم الدول العربية التي تموت شعوبها جوعاً وعطشاً، وفي أرض كانت تنتج ما يكفيها ويكفي شعبها بدلاً من التسوّل على أبواب البنك الدولي الجائر والظالم، فيما تركوا أرض الجهاد الحقيقية في فلسطين المحتلة، والتي تواجه الإرهاب الإسرائيلي وحيدة، وتُقتل وتُذبح من الوريد إلى الوريد من دون أن ينبس هؤلاء أو من يقف وراءهم ببنت شفة، بل إنهم يرسلون برقيات الودّ والطمأنينة لمن يذبح إخوانهم في فلسطين، هذا في حال كانوا يعتبرون أهل فلسطين إخوة لهم في الدين والدم والنسب.
على كل حال، فإن ما حدث في سوريا من تطوّرات وتحوّلات حذّرنا منه سابقاً، يحتاج إلى بعض الوقت حتى نحكم عليه بشكل كامل، وإن كنا نعرف منذ اليوم الأول للحراك الذي بدأ قبل أكثر من عقد من الزمان أنه لن يكون في صالح أمتنا العربية والإسلامية، وأن تداعياته التي نشهد بعضها الآن لن تخدم سوى الكيان الصهيوني المجرم الذي يهلّل فرحاً وطرباً بما حدث، بل ويتمادى في عدوانه من خلال احتلال مناطق جديدة داخل الأراضي السورية، وتقصف طائراته القواعد العسكرية السورية ومخازن الأسلحة بحجة عدم وقوعها في أيدي الجماعات المسلحة، مع أنه يعرف تمام المعرفة أنها لم ولن تطلق عليه رصاصة واحدة طوال تاريخها، بل وكان المصابون من أفرادها يتلقّون الرعاية الصحية في المستشفيات الإسرائيلية في صفد وغيرها.
كنت قد كتبت في خاتمة مقالي قبل الأخير عبر موقع الميادين نت ما يلي:" مطلوب من الجميع في محور المقاومة، دولاً وجماعات، أن تعدّ العدّة لمرحلة قد تكون صعبة وقاسية، وأن تضع أسوأ الاحتمالات على الطاولة، وتضع إلى جوارها كل الوسائل والأدوات الكفيلة بمواجهتها والتصدّي لها، ففي هذا العالم الذي يملأه الكره والعنف والبحث عن المصالح، لا مكان للطيبين، ولا مكان لأصحاب النيّات الحسنة".
هذا التحذير كان نتيجة قراءة واقعية للمشهد الميداني والعملياتي بعد وقف العدوان على لبنان، والذي تلاه مباشرة الهجوم على سوريا والسيطرة على مدينة حلب، إذ إن الدور الذي قامت به الدولة السورية في ما يتعلّق بإسناد جبهات المقاومة المختلفة، لا سيّما في لبنان وفلسطين، كان يضعها منذ مدة طويلة على رأس قائمة المستهدفين، بل إن النيّات التي كانت تشير إلى ذلك كانت واضحة ولا تحتاج إلى كثير من التحليل أو الاستنباط، ومن كان يتابع الصحافة الإسرائيلية تحديداً خلال السنوات والشهور الماضية كان يدرك ذلك.
حتى هذه اللحظة التي لم تُعرف فيها أسباب هذا الانهيار المتسارع للمدن والمحافظات السورية وصولاً إلى العاصمة دمشق، وفي ظل حالة اللغط والإرباك القائمة، والكثير من المعلومات المفبركة والكاذبة التي تُنشر هنا وهناك لخلط الأوراق والتأثير في الرأي العام، لا يبدو أن الأمور تسير في صالح دول محور المقاومة وجماعاته، والتي يبدو أنها وجدت نفسها في داخل عاصفة تجاوزت قدراتها وربما توقّعاتها،إذ إن الاستجابة البطيئة للغاية لما جرى من تحركات عسكرية منذ الهجوم على حلب وما تلاه من تطورات، ومن ثمّ الذهاب باتجاه البحث عن حل سياسي، كان قد فات أوانه، من خلال جولات قام بها وزير الخارجية الإيراني على وجه الخصوص، تُظهر أن هذا المحور قد عانى من سوء تقدير لمجمل ما جرى من أحداث، إضافة ،وهو الأهم، أنه عانى عجزاً أو فشلاً استخبارياً كبيراً وغير مسبوق، إذ إن تحركات من هذا القبيل بمئات آلاف المقاتلين، من داخل منطقة من المفترض أنها تتبع لعمليات مراقبة من الجو والبر على مدار الساعة، بالإضافة إلى المراقبة الإلكترونية والاستخبارات البشرية كان يجب أن يتم اكتشافها، وبالتالي إعداد الخطط للتصدّي لها في الخطوط الأمامية، أو القضاء عليها في مهدها قبل أن تبدأ هجومها، وهذا سؤال كبير يتردد على ألسنة الكثيرين، وهو يحتاج لإجابة شافية ووافية كي لا يفقد المحور ثقة أنصاره ومحبّيه.
أكثر الجهات التي ستتأثر بما جرى في سوريا هي المقاومة في لبنان، والتي كانت تعتمد على الطريق البري الممتد من طهران، مروراً ببغداد ودمشق، وصولاً إلى بيروت للتزوّد بكل ما تحتاجه من أجل مواجهة العدو الصهيوني، وقد جاء هذا التطوّر المهم في ظل حالة من التوتّر عالي المستوى على خلفية العدوان على لبنان، وإمكانية أن يستغل العدو هذا التحوّل لاستئناف هجومه العسكري بعد انقضاء مهلة الستين يوماً.
ثاني الجهات هي إيران، والتي كانت تعدّ سوريا حليفاً موثوقاً في مواجهة الأطماع الإسرائيلية والأميركية، وكانت تنظر إلى النظام في دمشق بأنه يمنحها الغطاء والشرعية والجغرافيا لفرض ما كانت تسعى إليه من طوق ناري حول "الدولة " العبرية، وهو ما كان يُعدّ بالنسبة إلى الإيرانيين بمنزلة سلاح استراتيجي كابح لرغبة العدو في مهاجمة الأراضي الإيرانية من جهة، وعامل مساعد في دعم وإسناد جبهات المقاومة وفصائلها في المنطقة، من جهة أخرى.
ثالث الجهات هي العراق، والتي يمكن أن تكون الوجهة التالية لمخططات محور الشر، إذ إنها مؤهلة بفعل التركيبة الطائفية، وبسبب ضعف السلطة المركزية والدولة فيها، لتدخل أتون معترك تخريبي مثل الذي حدث في سوريا، وربما بشكل أوسع وأكثر تأثيراً بسبب تماسها الجغرافي مع إيران وسوريا، ووجود الكثير من الخلايا الإرهابية النائمة فيها.
رابع الجهات المتأثرة سلباً هي فلسطين ومقاومتها على وجه التحديد،حيث مثّلت سوريا ملاذاً آمناً للفلسطينيين كما لم تكن أي عاصمة عربية أخرى، وكان الفلسطيني يُعامل فيها معاملة المواطن السوري بل ربما أكثر، أما في ما يخص المقاومة فقد كانت سوريا قاعدة متقدّمة للدعم والإمداد والتدريب والعلاج، وربما ستكشف الأيام أو السنوات بعضاً مما قدّمته سوريا للمقاومة الفلسطينية،سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية المحتلة، والتي لعبت سوريا فيها خلال السنتين الأخيرتين دوراً محورياً في عودة النشاطات المسلحة إلى مدنها وقراها، وساهمت في إعادة تفعيل المجموعات والكتائب العسكرية للمقاومة، لا سيّما في جنين وطولكرم ونابلس، كما لم تفعل أي دولة من قبل.
جهات أخرى ستتأثر سلباً بما حدث في سوريا، منها دول ساهمت في سقوط النظام من خلال غرف العمليات المعادية المقامة على أراضيها، وثانية أنفقت المليارات من أجل دعم الجماعات مختلفة الأجندات والتوجهات والولاءات، وثالثة امتنعت عن تقديم المساعدة لسوريا وهي تتعرض لحصار أميركي وغربي خانق وقاتل ساهم في انفراط عقد مؤسساتها، وفي تحوّلها إلى دولة شبه فاشلة، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي.
قبل أن نُنهي، دعونا نسأل السؤال التالي: هل نحن أمام سقوط دولة ونظام، وقفا خلال عقود مضت في وجه مشاريع التبعية والسيطرة على مقدّرات الأمة، أم أمام تفكّك محور المقاومة، الذي بذل الكثير من التعب والدم والتضحيات من أجل بناء صرح مقاوم قلّ نظيره، استطاع من خلاله أن يُفشل مؤامرات الأعداء، وأن يقف بالمرصاد في وجه خططهم وألاعيبهم.
وفي الحقيقة، من دون التقليل من خطورة ما جرى ويجري، وبغض النظر عن إمكانية وجود تقصير أو تخاذل من هذا الجانب أو ذاك، فإن فرضية تفكّك محور المقاومة وانهياره تبدو ضعيفة للغاية، مع أنه فقد إحدى أهم ساحاته الرئيسية، ولا نبالغ إذا قلنا إنه فقد قلبه النابض الذي كان يمد أطرافه وأذرعه المنتشرة في جغرافيا واسعة من الإقليم بما يلزمها من أجل البقاء، ولكن بما أن بنية هذا المحور قوية وثابتة، ولا تعتمد فقط على مكوّن واحد أو اثنين من مكوّناتها الأساسية، ولديه من الإمكانيات البشرية والعسكرية ما يستطيع من خلاله مواجهة أعتى البراكين التي يمكن أن تثور في وجهه، فإنه قادر على استيعاب ما جرى، وامتصاص الصدمة التي تعرّض لها، وتحويل التهديد الذي ارتفعت نسبة خطورته إلى فرصة سانحة لمزيد من الإنجازات.
محور المقاومة الذي بُنيت أساساته على أرض صلبة، وتعمّد بنيانه بتضحيات العظماء والأبطال، وتخضّبت طريقه بدماء الشهداء البواسل، لا يمكن له أن ينهار أو يتفكّك، خصوصاً وهو يملك قيادة حكيمة، وجنوداً أوفياء إن أرادوا خلع الجبال لخلعوها، وملايين الأنصار والمحبّين لو تحركوا لغيّروا معادلات، وصنعوا معجزات.
هذا المحور سيضمّد جراحه النازفة، وسيواصل طريقه مهما كلّفه ذلك من ثمن، لأنه يدرك تماماً أن انهياره، لا سمح الله، سيفتح الباب على مصراعيه لدخول الجميع في المنطقة إلى الزمن الإسرائيلي، هذا الزمن الذي سيبتلع المنطقة، ويجعلها تجثو على ركبتيها لتقدّم فروض الطاعة لشذّاذ الآفاق والقتلة والمجرمين، هذا المحور سينهض من جديد حتى لو بعد حين، حينها لن يسود الشر، ولن يحلّ الظلام، ولن يفرح أكلة الأكباد بمصرع حمزة من جديد.