خيارات القاهرة للتعامل مع الأحداث السورية الأخيرة.. المخاطر والفرص
للقاهرة دور محوري يمكن أن تلعبه من خلال تعزيز التحالفات الإقليمية، وتقوية الحضور العربي والدولي، والعمل على إعادة بناء الدولة السورية، ويتطلب تحقيق ذلك سياسة مرنة.
سقط النظام في سوريا على نحوٍ مفاجئ ومربك للجميع، فلم يكن أحد يتوقع أن تسقط دمشق في أيام معدودات وهي التي صمدت لنحو 13 عاماً في وجه المخطط ذاته، لكنّ أولئك الذين خططوا ودبّروا لحدوث الأمر مُستثنون طبعاً من المفاجأة، ويستعدّون الآن لحصد الغنائم وجني الأرباح، منتهزين حالة عدم الاستقرار والارتباك التي تعيشها البلاد، بعيداً من ساحة الأمويين التي تشهد تجمعات لأعداد من "المحتفلين بالنصر"، وتتركّز عليهم الكاميرات لأسبابٍ غير بريئة.
على جانبٍ مواز، تشعر العواصم العربية بالقلق بسبب حالة الفراغ السياسي والأمني الحاصلة في سوريا، نتيجة سقوط الدولة بمؤسساتها لا النظام الحاكم فقط، بالإضافة إلى القرائن المتعددة والتي تشير إلى توسع تركي في شمال غربي البلاد، جنباً إلى جنب مع الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع الجيش العربي السوري، التي باتت مهجورة من دون حماية أو تأمين، ناهيك بتمدد "جيش" الاحتلال برياً في الأراضي السورية، لتتقلّص المسافة بينه وبين دمشق إلى 25 كم، لا أكثر.
القاهرة، كإحدى أكبر العواصم العربية، لم تتخلّف عن الإدلاء برأيها في الأحداث السورية مع رحيل نظام الدكتور بشار الأسد، إذ أكدت "الانحياز لإرادة الشعب السوري"، مُعربةً عن أملها في أن تكون عملية الانتقال في سوريا "سلسة وسلميّة وشاملة من دون إقصاء لأحد"، محذرةً في الآن ذاته من السماح "لأي طرف خارجي بالتدخل لتحقيق مكاسب على حساب السيادة السورية أو وحدة أراضيها". لكنّ ما تضمره الإدارة المصرية في نفسها كان قطعاً أكثر مما قيل في تصريحات وزير الخارجية بدر عبد العاطي.
يشعر قطاعٌ من المصريين أن بلادهم هي الأكثر ارتباطاً بدمشق في التاريخ القديم والحديث، حتى أن العلَم الذي منع "الثوار" استخدامه اليوم، كان علماً مشتركاً للعاصمتين معاً لسنوات عديدة، أثناء الوحدة السياسية، ثم لفترات متقطّعة بعدها، كما أنّ في مصر مئات الآلاف من السوريين الذين هاجروا خلال العقد الماضي بسبب ظروف الحرب ولهم اليوم دور اقتصادي بارز، يثير جدلاً بين الحين والآخر، كما أن البلدين في سنوات ما بعد "الربيع العربي"، واجها تحديات متماثلة تتعلق بالتصدي للتنظيمات التكفيرية، والتي تتبنى الأيديولوجيّات عينها، وعناصرها تجولُ بين هنا وهناك.
كل ما سبق، يدفع المصريين إلى الاهتمام بالأوضاع في سوريا بصورة مضاعفة، خصوصاً أولئك الذين استشعروا خطورة أن تمنح الأحداث السورية قُبلة الحياة مرةً أخرى لتنظيم الإخوان، لينشط بدوره في العواصم التي خرج منها مدحوراً كما القاهرة، بعد أن دبّت فيه الروح من جديد، ولا شك أن ما ينشره بعض أعضاء الجماعة من خارج مصر على مواقع التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع تولي "حكومة الإنقاذ" المدعومة تُركياً مقاليد الأمور في دمشق، قد فاقم من شعور القاهرة بالتوجس، ودفعها لتتحسس أسلحتها للمواجهة.
لدى جمهور المقاومة شعور كبير بالقلق على مستقبل المحور بعد سقوط النظام السوري، الذي قدّم الدعم دوماً للحركات المسلحة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، وهو خوف مشروع، خصوصاً مع اقتراب استلام دونالد ترامب منصبه كرئيس للولايات المتحدة، والمشاريع التي يحملها في جعبته لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية ولتعزيز الهيمنة الأميركية على دول العالم؛ لكن الوساوِس التي يمكن أن تطارد القاهرة، هي من نوعٍ آخر، وإن كان من الوارد أن تتشابك، ولو بصورةٍ طفيفة، مع ما يخص معسكر المقاومة، والذي يعيش اليوم الاختبار الأقسى في تاريخه الحديث الذي يبدأ بانتصار الثورة الإيرانية عام 1979.
ثلاث مسائل هي بالتحديد ما يشغل بال الإدارة المصرية
أولاً: أن تتحوّل سوريا من دورها التاريخي كمنارة حضارية في العالم العربي إلى مرتع للتنظيمات التكفيرية ذات الأجندة السلفية الجهادية، بما ينعكس سلباً على دول المنطقة كافة. وعوضاً عن الدراما الاجتماعية والفن الراقي وصناعات حلب الفريدة، يصبح الوارد من سوريا هو التكفير والعنف والفوضى، شبيهاً بما استورده العالم العربي من أفغانستان يوماً ما.
ثانياً: رغم أن العلاقات بين القاهرة وأنقرة قد شهدت تحسّناً نسبياً خلال الفترة الماضية، إذ تبادل الرئيسان السيسي وإردوغان الزيارات خلال عام 2024، كما تمت دعوة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الجامعة العربية في القاهرة سبتمبر/أيلول الماضي، فإن ذلك لا يمنع شعور القاهرة بالقلق من تمدد تركيا داخل سوريا، على النحو المخطط له، والذي لا يبدو أنه سيقتصر على مناطق في حلب وإدلب أو التصدي لطموحات "قوات سوريا الديمقراطية"، بل هناك ما يشير إلى هيمنة مرتقبة لأنقرة على القرار السياسي داخل دمشق، ويظهر ذلك في تشكيل الحكومة الجديدة، والاستقبال الحافل الذي حظي به الوفد التركي المشكل من وزير الخارجية ورئيس جهاز المخابرات.
فالملاحظ أن وسائل الإعلام المصرية لم تتوقف منذ رحيل جماعة الإخوان عن الحكم في يونيو/حزيران 2013، عن الإشارة إلى طموحات حزب "العدالة والتنمية" التركي التوسعية، وأحلام إردوغان في بناء إمبراطورية على أشلاء الدول العربية، وكانت أشد مراحل الهجوم الإعلامي خلال عام 2019، عندما وصلت الأمور إلى شفا الاقتتال في ليبيا، فلم يكن لدى القاهرة أي استعداد للتفريط في مناطق شرق ليبيا، أو السماح للأيادي التركية بالتمدد إليها، وهي التي بذلت مجهوداً كبيراً لجعلها خالية من التنظيمات الدينية المتطرفة؛ وبالتالي فإن توسع النفوذ التركي في سوريا أمر يثير القلق لدى الإدارة المصرية.
ثالثاً: رغم أن القاهرة كانت أول عاصمة عربية توقع اتفاقية سلام مع "تل أبيب"، فإن العلاقات بين مصر و"إسرائيل" لم تأخذ شكلاً طبيعياً في أي يوم من الأيام، وقد توترت العلاقات مؤخراً مع رفض الإدارة المصرية القبول بتهجير أهالي قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء، ويبدو أنها ستتعكّر أكثر خلال الفترة المقبلة مع إعلان حكومة الاحتلال انهيار اتفاقية فض الاشتباك المُوقعة مع سوريا عام 1974، ثم السيطرة على المنطقة التي كان يفترض أنها عازلة بين الجيش السوري و"جيش" الاحتلال، والتمدد البري داخل الأراضي السورية.
لدى مصر اتفاقية أيضاً مع العدو الإسرائيلي، وما قام به بنيامين نتنياهو من نقض اتفاق "بلاده" مع سوريا بتلك السهولة، يبعث برسائل غير مطمئنة إلى الجميع، ويؤكد الأطماع الإسرائيلية في عموم الأراضي العربية، وأن الأمر لا يقتصر على فلسطين وحدها، خصوصاً مع حكم اليمين الإسرائيلي المتطرف، وتحكّمه في جميع القرارات التي تصدر من "تل أبيب"؛ وهذه المسألة المتعلقة بالأمن القومي تثير استياء الدولة المصرية، وهو ما دفع وزير الخارجية إلى تأكيد رفض بلاده الممارسات الإسرائيلية، مشدداً على أن هذه التحركات تعدّ احتلالاً لأراض سورية وانتهاكاً سافراً لسيادتها.
كيف يمكن للقاهرة أن تلعب دوراً لحفظ مصالحها وضمان وحدة الأراضي السورية؟
تملك الدولة المصرية مجموعة من الأدوات التي يمكن استخدامها لضمان مصالحها في سوريا، وهي التي بالضرورة تتقاطع مع مصالح السوريين الطامحين للحفاظ على وحدة أراضيهم، ولاستمرار نمط الدولة الحديثة من دون سقوطها في براثن التنظيمات الظلامية، ومن بين تلك الأدوات:
1- تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية:
عبر التنسيق مع دول الجوار السوري، إذ يمكن لمصر توثيق التعاون مع دول مثل العراق والأردن لتعزيز رؤية مشتركة تحدّ من النفوذ الخارجي في سوريا، كذلك توسيع مساحة العمل لحشد رأي عام دولي يعارض احتلال "إسرائيل" للأراضي السورية، ويضغط على حكومة نتنياهو لإيقاف حملته العسكرية التي تستهدف ما تبقى من المعدّات العسكرية السورية.
كذلك دعم نشاط سوريا في الجامعة العربية لتقوية الموقف العربي الموحّد في مواجهة التدخلات الخارجية، وتعزيز الهوية العربية في مواجهة أي محاولات للغزو الثقافي، مثلما يحدث في بعض المناطق شمال سوريا.
2- إعطاء الأولوية لاستعادة الدولة:
تعيش سوريا الآن مرحلة شديدة الخطورة في ظل غياب المؤسسات الأمنية وتوقف المصارف عن العمل وتدمير آليات الجيش وتسريح عناصره، ما يؤدي بالتبعيّة إلى شيوع حالة من الفوضى، يمكن أن تطيح الأخضر واليابس داخل البلاد، ويمكن لمصر في هذا السياق الدعوة إلى تشكيل لجنة عربية من الدول الكبرى لتقوم بدورها المؤثر والداعم للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات، والحدّ من الممارسات الانتقامية التي يمكن أن تُوصل البلاد إلى شكلٍ من أشكال الحرب الأهلية.
كما يمكن للدولة المصرية التنسيق مع الهيئات الأممية للعب دور عاجل يضمن عودة الأمن إلى الشارع السوري، بما يفضي إلى دوران عجلة الاقتصاد وهدوء الأوضاع، ولا شك أن هذا الدور سيمنح القاهرة حضوراً كبيراً بين السوريين، ما يسمح لها بالتأثير في مجريات الأحداث لاحقاً.
3- دعم التنظيمات السورية الرافضة لصور الهيمنة الخارجية كافة:
يتم ذلك عبر تشجيع الفصائل السياسية المعتدلة داخل سوريا، والتي ترفض هيمنة أي طرف على قرار دمشق، كما تعارض بالقدر ذاته، الدور الذي تلعبه "إسرائيل" في البلاد؛ ومن المفترض أن يستهدف دعم تلك الفصائل تحقيق توازن في القوى داخل سوريا، وخلق مساحة للتأثير.
4- تعزيز الحضور الاقتصادي:
الاستثمار في إعادة إعمار المناطق التي شهدت تخريباً خلال السنوات الماضية، والتعاون مع المجتمع الدولي لترميم المناطق المتضررة، والعمل على إعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية، ما يعزز النفوذ المصري في هذه المناطق.
5- إدارة الحضور الإعلامي والدبلوماسي:
إبراز الآثار السلبية المترتبة على اعتماد المناهج السلفية الدينية بأبعادها الطائفية والرجعية لحكم البلاد، والتحذير من مشاريع الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك المشاريع الإمبراطورية لدول الجوار، خصوصاً في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان أو التغيير الديموغرافي.
ويمكن استخدام القنوات الدبلوماسية الدولية لتحقيق الغرض نفسه، من خلال استخدام المنابر الدولية، مثل الأمم المتحدة، للتنديد بالعمليات العسكرية الإسرائيلية داخل سوريا التي تنتهك القانون الدولي.
6- تنشيط التعاون مع القوى المحلية، والحيلولة دون اختراق "إسرائيل" المجتمع السوري:
يشمل ذلك تعزيز العلاقات مع العشائر السورية، وكذلك دعم المجتمع المدني، وتمويل برامج تنموية في المناطق التي ترغب في التقارب مع القاهرة وتناصر رؤيتها للحل في سوريا.
والعمل على منع أي محاولات إسرائيلية لخلق روابط اقتصادية أو اجتماعية مع المجتمعات المحلية داخل البلد.
7- منع تمدد الأفكار الجهادية:
يتطلب ذلك استراتيجية شاملة تعتمد على معالجة الأسباب الجذرية التي تؤدي إلى انتشار هذه الأفكار، إلى جانب مواجهة الدعاية المتطرفة وتقديم بدائل فكرية واقتصادية واجتماعية.
مع السعي إلى تعزيز الخطاب الديني المعتدل، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، ويمكن إرسال بعثات دعوية من الأزهر إلى المناطق المستهدفة، مع استضافة رجال الدين المحليين السوريين في القاهرة، لمنحهم دورات تدريبية لمواجهة الفكر الجهادي بالأدلة الشرعية.
ومن المهم في هذا السياق العمل مع شركات متخصصة لتعطيل مواقع ومنصات الجماعات الجهادية على الإنترنت، لمنع تلك التنظيمات من تجنيد عناصر جديدة في الأقطار العربية، والعمل على تعزيز الرقابة الحدودية، عبر التعاون مع الدول المجاورة لسوريا في ضبط حدودها لمنع انتقال المقاتلين أو انتشار الأفكار المتطرفة.
خلاصة:
للقاهرة دور محوري يمكن أن تلعبه من خلال تعزيز التحالفات الإقليمية، وتقوية الحضور العربي والدولي، والعمل على إعادة بناء الدولة السورية، ويتطلب تحقيق ذلك سياسة مرنة ومتكاملة توائم بين الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، كما تستطيع مصر معارضة النفوذ العسكري الإسرائيلي عبر الجمع بين الدبلوماسية النشطة، وبناء التحالفات الإقليمية والدولية، وتعزيز الحضور، مع التركيز على دعم سيادة الدولة السورية ووحدتها باعتبارها حجر الأساس في مواجهة أي تدخلات خارجية، بما يشمل التركية والإسرائيلية.
لكن، يظل هذا المسار مرهوناً بوجود إرادة مصرية حقيقة، تدرك ما يحيط بالوطن العربي من مخاطر، تفرض التعامل معها بإيجابية وبنوع من التحدي، وهذا يُلزم القاهرة بالتخلي عن سياسة النأي بالنفس عن المشكلات العربية، والتي التزمتها لعقودٍ طويلة منذ عهد أنور السادات، والتي سمحت بوجود فراغ كبير شجع العديد من القوى للعب دور في الأقطار العربية؛ وقد آن الوقت الذي يُفترض أن تلعب فيه القاهرة دوراً عربياً فاعلاً لحماية أمنها القومي ذاته قبل أي شيء آخر.