حين يصبح الأسرى عبئاً: "إسرائيل" في زمن السيكاريين الجدد
"إسرائيل" أمام مفترق فلسفي: هل وُجدت الدولة لحماية الإنسان اليهودي؟ أم أنها مشروع خلاص يتجاوز الأفراد؟ وهل يمكن أن تبقى حية، إن تحوّل أبناؤها إلى أدوات في يد نبوءة لا تقبل النقد أو التعديل؟
-
كيف يتحول المشروع الاستيطاني من سياسة خارجية إلى أيديولوجيا داخلية؟
حين قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وزعيم حزب "الصهيونية الدينية"، إن "الإفراج عن الأسرى ليس القضية الأهم"، لم تكن تلك مجرد جملة سياسية عابرة، بل مرآة عاكسة لتحوّل فلسفي عميق داخل الكيان الإسرائيلي: تحوّل من دولة تقوم على عقد وجداني بين مواطنيها إلى مشروع خلاص ديني يرى في حياة الفرد تفصيلًا ثانويًا أمام "الغاية الكبرى".
في هذا التصريح، يلوح طيف السيكاريين – جماعة يهودية متطرفة ظهرت في القرن الأول الميلادي خلال الاحتلال الروماني، واشتهرت باغتيال من اعتبروهم خونة أو متساهلين مع العدو. رفضوا أي تسوية أو تفاوض، وتمسّكوا بنقاء ديني-قومي جعلهم مستعدّين لإشعال حرب أهلية داخل القدس، حتى لو أدى ذلك إلى سقوط المدينة وتدمير الهيكل. وقد حذّر منهم رَبان يوحنان بن زكّاي، معتبراً أن عنادهم هو ما عجّل بالخراب.
اليوم، كما في الأمس، تتكرر المفارقة: تيار داخل "إسرائيل" يُقدّم الفكرة التوراتية على حساب الواقع، ويؤمن بأن التنازل عن "الرؤية الخلاصية" أخطر من التضحية بحياة المدنيين أو الجنود الأسرى. لكن هذه الرؤية ليست محل إجماع، بل تواجهها تيارات يهودية أخرى.
"إسرائيل"، إذاً، أمام مفترق فلسفي: هل وُجدت الدولة لحماية الإنسان اليهودي؟ أم أنها مشروع خلاص يتجاوز الأفراد نحو فكرة كبرى؟ وهل يمكن أن تبقى حية، إن تحوّل أبناؤها إلى أدوات في يد نبوءة لا تقبل النقد أو التعديل؟
التيار الديني القومي، منذ نشأته، لم يكن غريبًا عن المشروع الصهيوني، بل كان جزءًا أصيلًا منه. من حركة "همزراحي" إلى "غوش إيمونيم"، سعى إلى التوفيق بين التوراة والصهيونية، ورأى في قيام دولة إسرائيل تجسيدًا مبدئيًا لوعد إلهي، ولكن ضمن أطر الدولة الحديثة.
لكن نقطة التحوّل جاءت بعد حرب 1967، حيث نشأت قناعة دينية بأن احتلال الضفة الغربية ليس مجرد انتصار عسكري، بل علامة ميتافيزيقية على اقتراب الخلاص. عندها بدأ التيار يتحول من فاعل داخل الدولة إلى من يسعى لاستخدام الدولة أداةً لتحقيق رؤيته الدينية. صارت الضفة ساحة الخلاص، والدولة وسيلة لا غاية.
تحوّل الفهم السياسي إلى تصور فلسفي شبه لاهوتي. تحوّلت الصهيونية من مشروع عقلاني لإعادة تشكيل الشعب اليهودي إلى أداة لإعادة تشكيل الدولة ككيان توراتي. وداخل هذا التحوّل، ولدت نواة فكرية تُشبه الغنوصية: هناك نقاء يجب الحفاظ عليه، وعالم ساقط يجب مقاومته، وخلاص قريب يتطلب طهارة ولو على حساب الحياة.
وهكذا، لم يعُد بعض رموز هذا التيار – كسموتريتش وبن غفير – يرون الدولة كملاذ، بل كممر نحو كيان توراتي جديد. وشيئًا فشيئًا، بدأ هذا التصور يتسرّب إلى مؤسسات الدولة، ما جعل الصراع الحالي صراعًا على معنى إسرائيل نفسها: هل هي مشروع عقلاني لحماية الحياة؟ أم أداة لتحقيق نبوءة فوق بشرية؟
في المقابل، تكشف مواقف التيارات الأخرى في "إسرائيل" عن رؤى مختلفة لمعنى "الدولة" والمقدس.
فـالحريديم، رغم تشددهم الديني، يرفضون تأليه الدولة. تاريخيًا، لم يعترفوا بشرعية إسرائيل ككيان يمثل إرادة السماء، بل اعتبروها مشروعًا دنيويًا ناقصًا. هم يرون أن الخلاص شأن إلهي بحت، لا يتحقق عبر السياسة.
لكن الأهم أن الحريديم يؤمنون بقدسية الإنسان اليهودي كخليقة إلهية. كرامته لا تُشتق من دوره في مشروع قومي، بل من كونه مخلوقًا على صورة الإله. ولهذا، يرفضون بسهولة فكرة التضحية بحياته من أجل حلم توراتي. قال الحاخام إليعزر شاخ: "كرامة النفس اليهودية أغلى من كل أرض وكل حُلم".
أما العلمانيون الليبراليون، فمرجعيتهم ليست التوراة بل الفرد وحقوقه. الدولة بالنسبة لهم عقد مدني بين مواطنين، لا أداة لتحقيق نبوءات. وعليه، فإن الإفراج عن الأسرى التزام أخلاقي غير قابل للمقايضة، لأنه يعكس جوهر الدولة كضامنة للحياة لا كممر للخلاص.
بينما يتمسّك العلمانيون القوميون – ورثة بن غوريون وجابوتنسكي – بفكرة الدولة كضرورة قومية وأمنية، وليست تعبيراً عن إرادة إلهية. الدولة في نظرهم أداة لحماية اليهود، لا لفرض رؤى لاهوتية. وعليه، فإن حياة الإنسان جوهرها، لا وسيلة لتحقيق مجد توراتي.
هذه التعددية تكشف أن الصراع ليس فقط دينيًا-علمانيًا، بل هو فلسفي حول معنى المقدس: هل هو الحياة؟ أم الخلاص؟
"إسرائيل" ليست دولة نشأت عن تدرّج اجتماعي طبيعي، بل كيان استيطاني أُقيم بفعل تحالف سردي بين الدين والقوة، في إطار استعمار عالمي. هذا السياق غير الطبيعي جعلها بلا هوية موحّدة، بل فضاء تأويلياً مفتوحاً: العلماني يراها ملجأ، الديني يراها مرحلة خلاص، الحريدي يراها واقعًا يجب تحييده، الليبرالي يراها دولة أفراد.
وقد حافظ هذا التعايش الهش على نفسه بفعل الخوف والعداء الخارجي. لكن 7 أكتوبر شكّل نقطة انكشاف غير مسبوقة: ليس خللًا أمنيًا فقط، بل لحظة فلسفية فجّرت السؤال الجوهري حول معنى الدولة.
أظهرت الكارثة هشاشة الدولة كضامن للحياة، ودفعت التيار الديني القومي لتأكيد رؤيته: الحل لا يكون بإصلاح المنظومة، بل بإعادة الدولة إلى جذورها التوراتية.
هنا تظهر المفارقة الوجودية: دولة قامت لحماية اليهود باتت مطالبة بأن تختار بين أن تكون "دولة مواطنين" أو "كيانًا خلاصياً". بين هذين النموذجين تتفكك الثقة، وتتنازع الهوية.
لا يمكن فهم التحولات الفكرية داخل "إسرائيل" بمعزل عن العنف المستمر الذي تمارسه كقوة احتلال. فالدولة التي تبني أمنها على التفوق العسكري، وتُخضع ملايين الفلسطينيين بالقوة، لا تستطيع أن تحافظ على منظومة أخلاقية داخلية سليمة. العنف لا يظل عند الحدود، بل يتسرّب إلى الداخل، ليعيد تشكيل الوعي الجماعي، ويعيد تعريف ما هو "مقبول" و"مبرر".
هذا ما أشار إليه فلاسفة أخلاقيون إسرائيليون مثل يشعياهو ليبوفيتش، حين حذّر مبكرًا من أن الاحتلال سيحوّل "إسرائيل" إلى مجتمع مشوّه أخلاقيًا، لأن استمرار العنف الخارجي يبرر القسوة، وينتج تطبيعًا أخلاقيًا مع القتل والإقصاء. ما يبدأ كـ"مبرر أمني" سرعان ما يتحول إلى موقف ثقافي عام يستهين بالحياة، ويقدّس القوة، ويرى في الحلول المتطرفة مسارًا طبيعيًا.
ومن هنا، فإن صعود التيارات الراديكالية داخل "إسرائيل"، سواء دينيًا أم سياسيًا، لا يمكن فصله عن عقود من الاحتلال والعدوان والحصار والحروب. فالمجتمع الذي يُربّى على تبرير القتل في غزة، سيجد نفسه أكثر استعدادًا لتبرير قمع المعارضين في "تل أبيب"، ولرؤية أي تسوية كـ"خيانة"، وأي تعاطف كـ"ضعف".
بهذا المعنى، يتحوّل المشروع الاستيطاني من سياسة خارجية إلى أيديولوجيا داخلية تُعيد صياغة الإنسان الإسرائيلي نفسه: لا كضحية تاريخية، بل كفاعل مبرّر لأي سلوك باسم الخلاص أو البقاء.
رغم صعوبة التنبؤ، إلا أن المسار الفكري يشير إلى احتمالات مستقبلية مقلقة. إن استمرّت الفتنة الفلسفية حول معنى الدولة ومكانة الإنسان، فقد تجد "إسرائيل" نفسها أمام تكرار لمأساة القدس عام 70، حيث أفضت صراعات الفصائل اليهودية – وعلى رأسها السيكاريون – إلى دمار شامل.
التاريخ لا يعيد نفسه حرفياً، لكنه يُنذر أحيانًا بمآلاته. "إسرائيل" اليوم لا تقف فقط أمام تحديات أمنية، بل أمام أزمة فلسفية في تعريف ذاتها. هل ستجد معادلة تحقق التوازن بين التوراة والعقل؟ أم أن تناقضات الهوية ستظل تقودها إلى مصير شبيه بما كان؟